العرب اليوم
و”إعادة بناء المجتمعات” أيضاً!
ناهض حتّر
في حديثه إلى “العرب اليوم” (أمس) يطرح مدير مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، د. مصطفى حمارنة، جملة من التبسيطات الليبرالية التي تلامس سطح المشكلات الأردنية المعقدة، فلا تني أن تنزلق عنه.
تتصف النظرة الليبرالية بإهمالها للأبعاد التاريخية والاجتماعية والثقافية، وتفاعلاتها الجدلية… أو أنها–أي الليبرالية– تنظر إلى هذه الأبعاد–على الأكثر– نظرة برانية؛ وهي– لذلك– تتوهم القدرة على إعادة بناء المجتمعات والأمم، بإرادة فوقية، وفق بضعة أفكار متناثرة لها طبيعة استشراقيه في النظر إلى واقع بلادنا.
لم نقرأ–حتى الآن–أي تقرير استراتيجي يستحق هذه التسمية، من إنتاج “مركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية” الذي يجب أن تتسق تسميته مع نشاطه الأساسي، فيسمى “مركز استطلاعات الرأي.”
واستطلاعات الرأي نفسها فكرة ليبرالية، تنطلق من فكرة مبسطة مفادها إحلال اتجاهات الرأي العام، محل الدراسة المنهجية، في إصدار الأحكام السياسية والاجتماعية والثقافية. وكأن الحقائق الاجتماعية والتاريخية، يمكن التصويت عليها! هناك، بالطبع، أهمية كبرى لاستطلاعات الرأي بالنسبة للحكومات لكي تعرف النظرة الراهنة إليها، فتعدل أو تحافظ على سياسات معينة؛ وكذلك هي مهمة للمرشحين وجهات التسويق والترويج… ولكن من المضحك بمكان أن يتم اعتماد استطلاعات الرأي في بناء رؤى استراتيجية.
وأنا لا أغمط الدكتور حمارنة، حقه، في إبداء آراء استراتيجيته، بصفته مثقفاً أردنياً. ولكنني أشير فقط إلى أن هذه هي آراؤه الشخصية، وليست نتاج أبحاث استراتيجية، كما يمكن أن يتوهم القارئ.
والحكومات الأردنية غير المدرّبة على فنون السياسة العصرية، هي التي أعطت لمركز الدراسات الاستراتيجية في الجامعة الأردنية، وللصحافة المستقلة– مثل صحيفة “العرب اليوم “-صفة المعارضة. ولكن استطلاعات الرأي المحايدة والصحافة المستقلة هما، في النهاية، أداتان حكوميتان، تمكنان أصحاب القرار من استدراك التفاعلات السياسيّة وانفجارها.
يؤكد د. حمارنة على أن “الإصلاح في الأردن لا يأتي إلا من فوق” وهو ما يثير، تواً، التناقض بين فكرة الإصلاح وبين الديمقراطية. وهذا تناقض مركزه في الليبرالية لا شفاء منه. إنها معادية للديمقراطية، وتنزع إلى تنفيذ أفكارها عنوة بقوة الإدارة. وهذه فكرة ستالينية بامتياز. ولكنها– على خلاف الستالينية – تريد خدمة الأقلية الليبرالية -الاقتصادية خصوصاً – وليس خدمة الأغلبية الشعبية.
لا تريد الليبرالية، الانخراط في جهود سياسية وفكرية وتنظيمية لتكوين قوى شعبية إصلاحيّة هي، وحدها، القادرة على إنجاز التغيير، ولكنها تريد من السلطات تنفيذ برامجها “الإصلاحية” وهو مت سينعكس بالطبع، على المضمون الاجتماعي-السياسي، للإصلاح.
العام 1994، كان د. حمارنة أبرز المدافعين عن المعاهدة الأردنية-الإسرائيلية. وكان يعتقد أننا “نفاوض عن عمان” وأن معاهدة وادي عربة، سوف تحصننا من أخطار سياسات اليمين الإسرائيلي التي تصب في مشروع الوطن البديل.
وقد أثبتت السنوات العشر الماضية أن هذه المعاهدة المتعجلة كانت وبالاً على الأردن. فلم تحصل له حقوقه الأساسية في الأرض والمياه، ولم تحصنه من الأخطار الاستراتيجية. ولماذا؟ لأن “المعاهدة” تجاهلت تعقيدات الصراع العربي-الإسرائيلي، والمسارات الأخرى، وتعقيدات العلاقة الأردنية-الفلسطينية، ومشكلة اللاجئين والنازحين. وها هي كل هذه التعقيدات تنفجر في وجه الأردن دفعة واحدة.
وها هو الليبرالي د. حمارنة، يقترح، مرة أخرى، استيعاب كل هذه التعقيدات، بإجراءات تشريعيّة تقونن وتسيس التوطين، وذلك استناداً إلى حجتين إنكار الهوية الوطنية الأردنية (إنكار التاريخ) وإنكار المجابهة مع المشروع الصهيوني (إنكار التحديات الفعلية) و”إعادة بناء الأردن” على أساس التسليم الشامل بالمعطيات الراهنة! وهكذا، تظهر لنا الصفة الرئيسة لليبرالية المحلية المتمثلة في تسويغ الأمر الواقع، بغض النظر عن الألغام القابلة للانفجار في الخطوة التالية.