العرب اليوم
صنع الله إبراهيم الذي في خاطري
ناهض حتّر
أنا واحد من القراء القدامى المثابرين للروائي المصري صنع الله إبراهيم. قرأت عمله الروائي الأول “تلك الرائحة”، وأنا في الرابعة عشرة، منشورة في مجلة “شعر” البيروتية، تحت هذا العنوان المثير: الرواية التي منعت في مصر! وقد فتحت الرواية عيوني على نمط جديد من الكتابة والرؤية، وأعطتني، مبكراً جداً، لحظة تكوينية لم تؤثر على تفاؤلي الشاب، ولكنها سلحته بإيقاع أكثر تعقيداً وغنىً ونفاداً.
وقد اهترأت نسخة المجلة التي أعرتها، في السبعينيات، إلى المئات، وظللت أحتفظ بها تذكاراً. غير أن “نجمة أغسطس” هي التي أضاءت لي العالم، كشاب يساري، في تعقيداته وألوانه المتداخلة، وأعطتني عيانياً، القدرة على الرؤية بعين ناقدة من الداخل. كان “السد العالي”، بالنسبة للجمهور اليساري، كاتدرائية علمانية لأمجاد الثورة المصرية والتعاون الأممي مع الاتحاد السوفياتي. وقد أرانا صنع الله إبراهيم، هذه الكاتدرائية من داخلها في ملحمة تعرض البناء العظيم وأوجاعه وتصور الخواء الروحي، وترسم الغيظ والغبار-في مدلولاتها الحسية والاجتماعية معاً-بحيث يتدرب القارئ على أن يرى العالم-كما هو-رمادياً متداخلاً لا يقبل الأحكام القاطعة.
هاتان الروايتان، كانتا احتجاجاً روائياً ضد المؤسسة الناصرية من موقع حليف ملتبس مستثنى أو مبعد من “الصورة” الزاهية التي كان يدعونا إليها عبد الحليم حافظ… والتحليلات الشيوعية-المستمدة من الأدب السوفياتي-عن الطريق اللارأسمالي، مصعداً إلى “صنم”.
وواجه صنع الله إبراهيم، المؤسسة الساداتية، برواية قصيرى حادة الفصل هي رواية “اللجنة”. هي أهجية مبدعة لمرحلة فانتازية غامضة، فككها الروائي بسخريته المرّة، السلاح الأكثر مضاءً في مواجهة الساداتية.
عوملت “اللجنة، عند صدورها، بوصفها بياناً سياسياً، وتم استخدامها للتثقف السياسي الحزبي، على الرغم من كونها رائعة فنية. وهذه مفارقة ما زلت أفكر بها، وأحاول فك خيوطها.
لم تعجب رواية صنع الله “بيروت-بيروت” الكثيرين، ولكنني قرأتها بشغف مفكراً في العقل الإبداعي المدهش الذي يتمتع به صنع الله، خصوصاً لجهة قدرته الفذة على ابتكار الأشكال الروائية الملائمة لموضوعاته. وقد بدا لي، بوضوح، أن معالجة موضوع الحرب اللبنانية، روائياً، بالنسبة لكاتب مصري، سوف تأخذ بالضرورة، أسلوب المعالجة الصحافية.
ستظل أجمل إبداعات صنع الله إبراهيم، بالنسبة لي، هي روايته “وردة” في قدرتها الفنية المدهشة حقاً، على التأريخ لحقبة كاملة من تاريخ حركة التحرر الوطني العربية، مجسدة في تاريخ الشخصي لامرأة شديدة الحضور الإنساني، ومن خلال قراءة بلد عربي نكاد لا نعرفه (عُمان). “وردة” ملحمة أسطورية مكتوبة بالأرشيف وبالعين النافذة والخيال الخصب الخلّاق. وهي تستحق أكثر من جائزة. ويا للأسف أن الأحزاب اليسارية لم تستفد من “وردة” كما أفادت من “اللجنة”، لأنها كانت هي قد انحلت. ورسم الروائي انحلالها الذي كان يتكون في داخل مسيرتها على مدى السنوات الساخنة. أما الحديث عن رواية صنع الله “ذات”، فأرجئه إلى مقال مستقل.
حاولت أن أقرأ رواية صنع الله المسماة “شرف” ولكنني لم أستطع أن أتفاعل معها. شعرت، لأول مرة، أن الشكل الروائي أفلت من يدي الفنان، وامتلأت أجزاء الرواية بخطابات سياسية غير مبررة فنياً. وقد قدرت، عندها، أن صنع الله يخضع لضغوط الواقع السياسي اللامعقول الذي يدمّر الجملة العصبية للفنان، ويدفعه إلى الانفجار السياسي. وقد يكون محقاً كمواطن… ولكنها خسارة للفن الروائي. وأنا لم أحز بعد-نسخة من رواية صنع الله الأخيرة، “أمريكا فلي” ولا أستطيع الحديث عنها.
بالخلاصة، كنت، كقارئ مخلص لصنع الله إبراهيم، أتمنى أن نستقبله في عمان في ندوة نقدية تقرأ أعماله، ويتاح له، خلالها، أن يحاور قراءه؛ ويتاح للأدباء الشباب، الاطلاع على تجربته الخصبة.
ولكن، ويا للأسف-دعي صنع الله إبراهيم إلى عمان لأسباب سياسية من النوع الرديء، ولاستخدام اسمه الكبير في تفعيل هيئات ميته أو شبه ميته، مؤقتاً، وفي نشاطات لا تعرّف الأردنيين، حقاً، بواحد من أهم الكتاب العرب.
وقد دعي صنع الله إبراهيم إلى عمان، لأنه رفض جائزة تمنحها الدولة المصرية. وأحسب أنه رفضها في لحظة احتجاج ضد النعم العربية المذلة، فأراد أن يقول لا مدوية في وجه السقوط. ولو كنت مكان صنع الله إبراهيم، لطويت هذه الصفحة، ورفضت أن يتعامل معي الآخرون، من زاويتها الضيقة.
لقد قبل صنع الله إبراهيم، جائزة تمنح على اسم رجل أعمال خليجي. ولا اعتراض على ذلك. وبرر أن هذه الجائزة الخليجية تصدر عن هيئة مستقلة، بينما الجائزة المصرية تصدر عن حكومة فقدت شرعيتها. وبالنسبة لي، فأنا لم أرتح لهذه المقارنة، فالطبقة الحاكمة في البلدان العربية، داخل أجهزة الدولة أو خارجها، هي نفسها من حيث التوصيف الاجتماعي-السياسي. ويبقى أننا وصلنا إلى زمن أصبحت فيه دولة (…) أهم من مصر، ودولة (…) أهم من العراق، ودولة (…) تعلم سورة دروساً!! وأخشى أن صنع الله إبراهيم، قد ساهم، من دون أن يقصد، في هذا الانقلاب العربي الذي لا يخرج عن السياق الأميركي لخلط الأوراق وقلب المعادلات في جسم الأمة، وإحلال الأطراف… محل المراكز.
لكل ذلك، لم أذهب، بعناد وكمد، إلى أي من الفعاليات التي رحبت بصنع الله إبراهيم. إنهم يستخدمونه… ولم أحب أن أراه إلا كما وددت أن أراه منذ ربع قرن، روائياً قادراً على أن يعلمنا أسرار الحياة.