منطقة خطر
ناهض حتّر
أعرف السيد (مولينكس) من زمان؛ وحتى قبل ان يصبح، ولا فخر، السيد (مولينكس)! ففيما مضى كان السيد (مولينكس) مناضلاً وطيباً، وترك، عندما أدخلوه السجن، وريقات فيها كلمات طيبة تحاول أن تكون قصصاً، فانتخيتُ له، محبةً وصداقةً وتقديراً، فأصلحتُ من شأن نصوصَه لغةً وشكلاً، واخذت قرضاً بمبلغ (٣٠٠) دينار-وكنت وقتها جامعياً-وأخرجتُ له مجموعة قصصية، تعهدتها بالدعاية وبالكتابة، فكان أن صار السيد (مولينكس) أديباً.
عند شبك السجن، وعندما رأى أوراقه في كتاب انيق، قال لي انه لن ينسى هذا الموقف ابداً! وفيما بعد، طبعتُ له كتاباً اخر، واخر… وخضت دفاعا عنه معارك في رابطة الكتّاب الاردنيين، التي كانت ادارتها تتجاهل كاتبا قابعا في السجن… وكانت تلك الادارات تتعامل معنا نحن اليساريين على اساس معايير مزدوجة، فلنا مواجهة الوزراء والحكومة والصمود والتصدي والعقوبات والسجن وحجز جوازات السفر… ولها السفر والمقابلات والكتب، والمهرجانات!
في السجن كانت أولى علامات تحول المناضل الطيب الى السيد (مولينكس) قد بدأت مبكراً، ولكن عندما قال لي صديق مناضل سجين ذلك، لم أصدّق… وعندما قال ان عنده وثيقة بخط يد صاحبنا يعترف فيها بأنه (مولينكس)… لم أصدق!
ليلة الافراج عنه. قمت وثلة من الاصدقاء بالسفر الى سجن احدى المحافظات حيث هو، وجئنا به الى عمّان… وفي الايام التالية، لاحظت بعض الملامح المولينكسية في سلوكه، الا انني غضضت الطرف عنها، وارجعتها الى عدم التوازن المؤقت الناجم عن الخروج الى الحرية بعد اعتقال طويل.
في الاشهر التالية، اتضح لي، بصورة لا تقبل المناقشة، ان المناضل الطيب قد تحوّل الى مشروع السيد (مولينكس) وأخذت اراقب تبلور هذا المشروع، وتجسده في شخص، صار غريبا عليّ! فالمناضل قرّر ان يستثمر سنوات سجنه لفائدته الخاصّة فصار يوظف بطولته في طحن الاصدقاء والنساء والمواقف، وفي قبول أي شيء… وكل شيء… وتجهيزه كما يجب، وكما يحلو لستّ البيت، وللاحزاب على اختلافها وتنوعها واصطراعها، وللعشيرة، ولذوي النفوذ، وللحكومة… ولمن يرغب! وعلى أونه على دوّه!
وفي السنوات الاخيرة، طور السيد (مولينكس) قدراته، فصار يصلّي في المسجد، ويذهب الى البار، ويكتب في الصحافة، ويتقرب من الوجهاء والمتنفذين، ويغازل المناضلين… حتى أنه بعد جفوة، حاول استرضائي لأدعمه في الانتخابات النيابية التي كان اثناءها، يوحي لنا بأنه ما يزال يساريا بينما كان قد قدم طلبا سريا للانضمام الى حزب عبد الحميد الكاتب، لا أملا في ان يصير مستشاراً أو اميناً عاماً لوزارة، فهذا كثير عليه، بل من أجل طبع كتاب او سفرة أو تكليفه ببرنامج ثقافي تلفزيوني ترشيحه لرئاسة هيئة ثقافية، الى اخره من الفتات المرجو من عبد الحميد الكاتب وحزبه… هذا بينما خاض المعركة الانتخابية بوصفه مرشحاً عشائرياً آملا بالفوز على أساس قانون الصوت الواحد.. طالما ان رفيقين له تم تعيينهما نواباً قبل أن يترشحا على أسس عشائرية!
السيد (مولينكس) عاب عليّ انني لم أكن بطلاً مرة، مع أنني وهبتُ عمري للنضال، وما أزال، ولليسار، وما أزال، ولم يفكر للحظة بأن الاخرين، بما فيهم عبد الحميد الكاتب وحزبه، يتعاملون معه على أساس أنه كان، مرة، بطلاً.. فصار السيد (مولينكس)!
لم يفكّر السيد (مولينكس) بذلك، لان المعادلة (الاخلاقية) التي بنى عليها حياته قائمة على أساس أنه سدّد فاتورة النضال في السجن مرة واحدة، والى الابد، فصار حقاً له بعدها، أن يفعل ما يشاء، كيفما يشاء، من دون ان يكون لاحد الحقّ في نقده! فهو، بوصفه كان بطلاً يحق له ان يتوقف عن القراءة فيصير امياً، محتفظا في الوقت نفسه، بلقب مثقف! وبوصفه كان بطلاً يحقّ له التقوقع عند سذاجة كتاباته الاولى وأخطائها اللغوية والقواعدية، محتفظاً بلقب كاتب، بل طامحا الى ان يصير رئيساً للكتاب اجمعين!
وبوصفه كان بطلاً يحقّ له ان يغادر مواقع اليسار، محتفظا بحق تمثيل اليسار عندما يكون ذلك من مصلحته.
وبوصفه كان بطلاً، يحق له الاساءة الى الشرفاء، وتحريم النهوض على الناهضين!
وبوصفه كان بطلاً، يحق له اقتراف اشياء واشياء انف من ذكرها، مع انني أعرف تفاصيلها!
وبوصفه كان بطلاً.. وصار السيد (مولينكس)، يصير ممنوعاً على الناس أن تحاول البطولة أو
التمسك بالمبادئ، أو التمترس في خندق الفقراء، او حتى، السلوك المنضبط بقيم انسانية!
من هو السيد «مولينكس»؟
انه ليس شخصاً بعينه! انه بطل من هذا الزمان!