ناهض حتّر
هل صحيح أننا نواجه مشكلة بطالة ناجمة عن ثقافة عمل تقليدية؟ جزئيا، نعم. فالأردني “ابن دولة”، ويميل الى الوظيفة الحكومية بالدرجة الاولى او اقله العمل، موظفاً في شركة مساهمة عامة كبيرة. وقد يعود ذلك، جزئياً أيضاً، الى الرغبة في العمل المكتبي. ولكن المسألة تتعلق، بالدرجة الأولى، بالضمانات التي لا توفرها المؤسسات الخاصة وارباب العمل. ومن الناحية الثقافية، فان العمل في الحكومة او الشركات الكبرى، يحفظ الكرامة الشخصية في حين ان ارباب العمل في القطاع الخاص، ما يزالون أسرى الثقافة الاقطاعية، وهم يتعاملون، عادة، مع عمالهم وموظفيهم وكأنهم اقنان.
الا ان كل ذلك يظل في إطار الهوامش على القضية، ولا يدخل الى عمقها الذي يتعلق، تحديداً، بالأجور العادلة. ويقال ان هناك الاف الوظائف المتاحة في قطاع الصناعة، ولا يأتيها احد من العاطلين عن العمل. ويعود ذلك ببساطة، الى ان الاجر المعروض (95 ديناراً في الشهر) لا يشكل سوى 20 بالمئة من الدخل المعين لخط الفقر (وهو 500 دينار شهرياً). ان قيمة ساعة العمل المعروضة على العاطلين في الصناعة تساوي (395 فلساً) تقريباً، وهذا سعر زهيد للغاية، ولا يكفي لتجديد قوة العمل من دون احوال التضخم المالي وجنون الأسعار، فما بالك في ظل الانفلات الواقعي للتضخم والزيادات المتسارعة في اسعار السلع والخدمات الأساسية، من الغذاء الى الماء والكهرباء والمشتقات البترولية.
أعني ان السعر المعروض لشراء قوة العمل (العاطلة) ليس واقعياً بالمرة، ولذلك فان العاطلين غير مستعدين للبيع بخسارة فادحة. ومجرد وجود فئات اجتماعية فقيرة جداً لا يعني توفر الإطار الاقتصادي-الاجتماعي للعمالة الرخيصة، فهذه-اي العمالة الرخيصة-تتوفر في البلدان التي حافظت على اقتصاد ريفي واسع المدى يقدم لأبناء الفلاحين، جزءاً من تكاليف تجديد قوة العمل (حصة من المنتجات الزراعية والسكن والتضامن العائلي) بينما يكتفي هؤلاء بأجور متدنية في الصناعة والخدمات، باعتبارها دخلا اضافيا.
وهذا كان سائداً في الاردن القديم لما قبل الخصخصة (والعولمة) حين كان الموظف الصغير والعسكري يستفيدان من قاعدة الانتاج الريفي الذي تم تدميره الآن لحساب تجارة الاراضي.
قوة العمل الأردنية (بالنطر الى عمق عولمة الاقتصاد الاردني وسيطرة المضاربات العقارية والمالية، والتضخم، والارتفاع الفاحش في اسعار السلع والخدمات، وتراجع دور القطاع العام) ليست رخيصة، وليست بالتالي، ميزة تنافسية للاقتصاد الأردني، ويجب شطبها من قاموس جذب الاستثمارات.
فاذا كان غذاء الانسان وشربه سلعتين غاليتين يشتريهما من السوق، وتعليمه سلعة، وطبابته سلعة… في اقتصاد مخصخص ينتفي فيه دور الدولة الاجتماعي كلياً، وتنعدم فيه الضمانات، ويتعرض فيه المواطن للجوع والبرد بلا رحمة، بينما لا يوجد اقتصاد ريفي مساند، فان كلفة العمالة الاردنية مرتفعة، ولا بد من دفعها بالكامل للعاطلين لكي يبيعوا سواعدهم.
مجتمعنا مستمر بالعيش بسبب التضامن العائلي والعشائري. ولولا هذه النعمة، لأصبح لدينا جيش عرمرم من الجائعين-حرفياً-والمشردين، بينما تتمتع الأقلية بمستوى حياة الرأسماليين العتاة في اوروبا الغربية وامريكا. وفى هكذا وضع، من الصعب أن تنشأ طبقة عاملة راسخة.
المشكلة هي انه من دون طبقة عاملة محلية مدربة ذات تقاليد، فلا امل بنجاح الصناعة او الخدمات. وستبقى الاستثمارات معلقة في الهواء طارئة غير متجذرة مثلما هو حالها الان. لن يكون لدينا صناعة او خدمات من دون خبرات محلية وعمالة محلية وسوق محلية. وهذه كلها غير موجودة لان البلد تحول الى سوق عقارية ومالية تقوم على تهميش الأغلبية. يدفع بالخبرات الى الهجرة، وبالعمال الى البطالة، بينما تتضاءل السوق المحلية لان عدد القادرين على الشراء في تراجع مستمر.
الحل الشامل يكمن في اعادة بناء القطاع العام، وتشغيله، وتعزيز وتطوير الخدمات العامة المجانية، واعادة النظر في التعليم الجامعي، وانشاء قطاعات انتاجية في الريف، ووقف تسليع الاراضي، وضبط الاستيراد… الخ. لكن الحل الجزئي لمواجهة ظاهرة الاحجام الراهنة عن العمل في وظائف في الصناعة والخدمات، انما يكمن بإعادة تسعير قوة العمل بما يكفي لاعادة انتاجها، وربط الاجور بالاسعار في سلم ديناميكي متحرك شهريا.