منطقة خطر
العدد 135
ناهض حتّر
في السنتين الاخيرتين، اتضحت معالم الاستراتيجية الامبريالية القديمة-الجديدة ازاء المشرق العربي، وفي سيرورة تنفيذ الاستراتيجية تلك، اتضح، أيضا، حجم القوى الاقليمية المعادية للقومية العربية ومدى الخطر الجدي الذي تمثّله على مستقبل الوجود القومي العربي.
ان الامبريالية الغربية بقيادة الولايات المتحدة، تشن، منذ انتهاء الحرب الباردة، هجوما واسع النطاق ومكثفا، بهدف تحطيم كل الاحتمالات التي تهدد المصادر النفطية، والسيطرة المباشرة على هذه المصادر، ويتخذ هذا الهجوم عدة اشكال منها العدوان المستمر على العراق بهدف تحطيمه كقوة مستقلة، وتمزيقة، والسيطرة المباشرة على دويلات الخليج العربي، وفرض الاستسلام الشامل على دول الطوق امام (اسرائيل) بما في ذلك الاسراع في تصفية القضية الفلسطينية.
وهناك العديد من الكتاب الذين يعتقدون بان العراق والامة سينجوان في النهاية. وتشيع العديد من الكتابات اوهاما يمكن نسبتها الى حتمية قومية. ونحن نعتقد ان هذه مجرد اوهام. فاتجاه الاحداث الراهن يمكن ان يؤدي فعليا الى سقوط المشرق العربي وانهياره وتبدد القومية العربية. وليس من المستحيل ان ينتهي الامر بالعرب الى ان «يخرجوا من التاريخ» نهائيا، وان ظلوا في الجغرافيا بقايا امة وشتاتا تحت سيطرة القوى الاقليمية المتمثلة في اسرائيل وتركيا وايران.
هذا احتمال، والاحتمال الاخر هو ان تتمكن القوى الاجتماعية العربية الحية من اعادة بناء حركة التحرر القومي العربية، على قاعدة تحالف اجتماعي سياسي جديد قادر على صدّ المشروع الاميركي -الصهيوني الهادف الى تدمير المشرق العربي نهائيا، واذابته في (السوق الشرق اوسطية) التي هي هي (اسرائيل الكبرى).
وفي مواجهة هذا المشروع الاستعماري لا يوجد سوى مشروع واحد فعال، ونعني مشروع اقامة دولة قومية موحدة في المشرق العربي تكون قادرة على حل مشكلتيّ التنمية المستقلة والديمقراطية، بما يمكنها من ادامة النضال القومي ضد الكيان الصهيوني وقوى الاستعمار.
فهل القوى الوطنية العربية الراهنة، القومية واليسارية مؤهلة لحمْل هذا المشروع المضاد؟
في الاجابة على هذا السؤال نقول: ان تغييرا نوعيا طرأ على بنية تلك القوى، في السنوات الاخيرة، بحيث تجمد نموها، وضعف تأثيرها الجماهيري، وفترت حيويتها، واتجهت، للتعويض عن ضعفها المتفاقم، الى التموضع، باشكال والوان مختلفة، في اطار التوافق مع القوى التقليدية على «عقلانية» الوضع العربي الراهن، بما في ذلك الاقرار بشرعية التبعية للرأسمالية العالمية، والقطرية، وتجميد الصراع مع الصهيونية، وتطبيع العلاقات معها، والقبول المستلب بالايديولوجية البرجوازية، أي ايديولوجية اقتصاد السوق، وامتيازات النخبة، والجوع والبطالة للاغلبية -التي يجب، حسب، رعايتها بأعمال الخير والرأفة الحكومية -وذلك مع قدر معين، مقولب وجزئي، من الافكار الليبرالية حول (الديمقراطية المحدودة) و(حقوق الانسان).
لقد استسلمت القوى القومية واليسارية العربية للايديولوجية البرجوازية، وتعبر عن هذا الاستسلام بافكار وممارسات سيكولوجية الهزيمة، حيث غدت قيم التحرر الوطني والتقدم الاجتماعي والوحدة العربية وتحرير فلسطين، (اوهاما) او، في أحسن الاحوال، أحلاماً!
ومع ذلك لم تتخلّ القوى تلك، عن (يافطاتها) وعن خطاب ملغز وانشائي هدفه تبرير استمرار وجودها، واستمرار هيمنتها على انصارها، الا انه من اليسير على الناقد ان يبين ان اليافطات تلك لا تعني شيئا في الواقع. وان هناك، في العمق، قبولا شاملا ونهائيا بانتصار العدو واستعداداً لقبول قيمه وافكاره وثقافته… على نحو ما وصفه ابن خلدون من اتجاه المغلوب الى تبني ثقافة الغالب.
فهل تستطيع الحركة الاسلامية، حمل برنامج المواجهة الضروري قوميا؟
وجوابنا: هو: لا… للاسباب التالية.
اولا: ان الحركة الاسلامية، ككل، لا تتبنى برنامجا معاديا للرأسمالية وهي تؤمن باقتصاد السوق، وتقدس الملكية الخاصة للرأسمالي، وعليه، فان عداءها للغرب الرأسمالي، في جوهره، عداء سياسي-ثقافي، ولا يصل، عند اكثر الاسلاميين (تطرفا)، الى معاداة الرأسمالية ونظامها. وعليه فان الحركة الاسلامية لا تستطيع، ابتداء ان تنهض بمهام بناء اقتصاد وطني مستقل، غدا شرطه الاساسي، الخروج من النظام الرأسمالي العالمي؟
ثانيا: ان الحركة الاسلامية، ككل، لا تتبنى برنامجا ديمقراطيا تعدديا -وان اضطرت الى قبوله هنا او هناك -وهي بالتالي، عاجزة، ابتداء عن بلورة اجماع شعبي قائم على تحالف اجتماعي ديمقراطي فعال. وهو شرط لا غنى عنه لاي انجاز وطني حقيقي.
ثالثا: ان الحركة الاسلامية، بوصفها تنظيمات واحزابا، ما تزال عاجزة عن انتاج ثقافة اسلامية عصرية، تقطع مع الانموذج التقليدي للعقلية السلفية، وتقدم قراءة فعالة للحاضر والمستقبل.
رابعا: ان الحركة الاسلامية في واقع الامر، تنقسم الى اتجاهين كبيرين، اولهما تموضع في الواقع الكولونيالي، وقبل به -وحاله في هذا كحال القوى القومية واليسارية العربية -وثانيهما انتهى الى ارهابية انتقامية بلا أفق، معزولة اجتماعيا وتصب، فعليا، في مشروع تفتيت وتدمير البنى العربية، أي في مشروع الاعداء.
فما البديل؟ نتابع غدا.