الشاهد 9
هذا العالم
ناهض حتّر
كنتُ يسارياً منذ طفولتي المبكرة كنت أحب الاتحاد السوفياتي وعبد الناصر والجبهة الشعبية لتحرير فلسطين؛ ولم أكن، في زمان الاضطراب الكبير، أشارك أولاد المدرسة، هتافهم الموقّع:
“فوق التل”
“تحت التل”
“احنا رجالك”
“وصفي التل!”
بيد أنني حزنتُ، عندما اغتيل الرجل، حزناً شديداً. لقد شعرت بأن ذلك الاغتيال كان لئيماً، وكان موجهاً ضدي، على نحو ما! وأدركت معنى ذلك الشعور، لاحقاً، عندما قرأت كتاب “عادل رضا” الذي عنوانه “وصفي التل: القاتل والقتيل!”
كان أهلي، والناس من حولي، يحبون وصفي التل، حباً صافياً، ويثقون به ثقة كاملة. وكان وصفي برجولته وبقسماته الأردنية، زعيماً شعبوياً غير متغرِّب. يشعر الأردنيون أنه منهم. يتكلم مثلما يتكلمون ويسلك مثلما يسلكون، خشناً، وواضحاً، وحازماً… يمارس السياسة عن موقف ورؤية، فلا يكذب، ولا يتعالى، وخطابه قاطعٌ ورجوليٌ… وباعثٌ، وبالتالي، على الاطمئنان!
فيما بعد، عرفت وصفى التل جيداً، من خلال كتاباته (وخاصة مقالاته في جريدة الرأي الصادرة عن القوميين العرب) ومن خلال مواقفه وما قيل عنه وله… وتعزّز لديّ، أكثر فأكثر، ذلك الشعور المتناقض إزاءه؛ فبقدر ما اكتشفتُ مدى خلافي السياسي معه، بقدر ما تبيَّنتُ صفاته بوصفه رجل دولة من طراز عالٍ، ميزته الأولى أنه حاول أن يستمد معظم قوّته من التأييد الشعبي بالدرجة الأولى، فكان، بالتالي، يحاول، طبعاً لا صنعة، أن يكون منسجماً مع طينة الشعب.
وأكثر ما أحببته في وصفي، حبَّه للأردن، الذي كان فيه شيئاً من شعر والده “عرار”؛ وحبه للأرض، وللفلاحة، وللعمل اليدوي، وللغابات… وربما لا يعرف معظم الذين يتمتعون برؤية الغابات على طريق الشمال، بأننا مدينون، بأكثرها، لوصفي التل!
وصفي التل، صنع أشياء كثيرة للأردن وللأردنيين، مغفلة لا يُشار اليها… وظل اسمه يرتبط بقرارات وأحداث ليس صحيحا، أنه صانعها، أو أقله، صانع الأكثر سوءا منها.
وإذا كانت الدراسة العلمية لشخصية وصفي التل ودوره السياسي، فيما أرى، واحدةً من ضرورات تطوير الفكر السياسي الأردني، وفهم الأردن الحديث فهما صحيحا، فإن هناك حقيقةً أولى وسؤالاً، لم يعد بالإمكان تجاهلهما… لقد أحب الأردنيون، بكل أطيافهم السياسية، وصفي التل، وما زال أكثرهم يذكره بالخير وبالحسرة.
فلماذا؟
في الاجابة على هذا السؤال، لن نفهم ماضي الاردن فقط، بل حاضره… ومستقبله أيضا.