العرب اليومناهض حتّر
«ايها الربيع المقبلُ من عينيها
ايها الكناري المسـافر في ضوء القمر
خذني اليها
قصيدة غرام او طعنة خنجر!
فأنا متشرّد وجريح»
لم أنسه يوماً، محمد الماغوط، لم يفارق ديوانه يديّ المرتجفتين المحترقين بالتبغ والحبر. ترنّ احزانه القديمة من خمسينيات بيروت في روحي المشظاة، فلا اعرف كلماتي من كلماته، ولا دموعي من دموعه. أفليس هذا هو سرّ الشاعر العظيم؟ ذلك الذي يجعلـك تتملـك -حرفياً -ايقاعاته وعذاباته وكلماته.
حين كان طريداً في بـيروت، مهدداً، منبوذاً ونصف جائع، كان يضرب قدميه على شاطئ «غريب»، يستمطر دمشـق، في لهفة المحب المغدور:
«أظنّها من الوطن
هذه السحابة المقبلةُ كعينين مسيحيتين،
أظنها من دمشق
هذه الطفلةُ المقرونةُ الحواجب
***
أيها الحزن! يا سيفي الطويل المجعَّد
لا امرأة لي ولا عقدة
لا مقهى ولا شتاء»
لم اعرف أبداً كيف أجمع نثار قلبي في باب توما، ونشيد الماغوط، كأنه ترنيمة آتية من السماء: «حلوة… حلوة عيون النساء في باب توما».
حقا اصبح الحيّ الدمشقي القديم، متاهة سياحية للقساة ومحدثي النعمة، لكن، في الزوايا الداخلية الحميمة، ما تزال هناك امرأة «تقلي السمك لحبيبها العائد من المقهى وفي عينيها الجميلتين، ترفرف حمامتان من بنفسج».
الماغوط شكّل رؤيتي الجمالية لعالم قـاسٍ جارح لكنه مُشتهى شهوة زاهد
“نصفُه نجوم
ونصفه الآخر بقايا واشجار عارية”
الشاعر على الرصيف، وحيداً وقاسياً لا يعاتـب المرأة الذاهبة الى مأزقها الدنيوي، لكنه يقرر حقيقة بسيطة طفولية:
“لقد كنتِ لي وطنا وحانة
وحزنا طفيفا، يرافقني منذ الطفولة
يومَ كان شعرك الغجريّ
يهيم في غرفتي كسحابة
كالصباح الذاهب إلى الحقول
…
فاذهبي بعيدا
واخفقْ يا قلبي الجريح بكثرة …”
هكذا، كان هناك مغامرون في خمسينيات وستينيات القرن الماضي، يحـاولون صعود الجبل واختراق الغيمات، واكتشاف الأصول، بحرارة، بتوق جارف للحظة تقبض على الزمن من اجل تفجيره. والماغوط، الآتي من “سلمية” القديمة الفقيرة يراها “الدمعة التي ذرفها الرومـان، على اول اسير فـك قيوده بأسنانه، ومات حنينا اليها”
حسنا، من اعماق اللوعـات ورعدة الحب المقتول تحت المطر، كانت العواصف تسطع:
بيوتهم مغمورة بالمصنفات
ويوتنا معمورة بأوراق الخريف
في جيوبهم عناوين الخونة واللصوص
وفي جيوبنا عناوين الرعد والانهار
هم يملكون النوافذ
ونحن نملك الرياح
هم يملكون الاوسمة
وبح نملك الوحل .. والحبال .. والخناجر”
***
مات … محمد الماغوط
مات، أولا، كرعد وعاصفة ونسر حزين، في السبعينات، حين تصالح كوميديات دريد لحام
المصممة لتخريب الوعي التقدمي والسخرية من امكانية تغيير العالم.
ثم… مات، ثانياً، بالجلطة في ربيع حزين لم يزهر فيه اللوز… ربيعنا الذي ينتظر ان ينبجس
من قلوبنا الصدئة الخائفة… الطامعة… المغلقة.
سلاماً… ايها النسر الجريح.
حزن في ضوء القمر
Posted in Uncategorized.