ناهض حتّر
فكر الأردنيون بإقامة قناة بين البحرين الأحمر والميت، قبل التورط في معاهدة وادي عربة 1994. وكان التصور الأردني، وقتها، يستبعد المشاركة الإسرائيلية. ثم، في زفة “السلام” الزائفة، تم إشراك إسرائيل، لكي يصبح المشروع واحداً من مشاريع “السلام” الكثيرة التي ذهبت أدراج الرياح!
ومع ذلك، وبالرغم من ذلك، تابعت الحكومة الأردنية أوهامها، ونظمت خلال الستة أشهر الماضية، مباحثات سرية مع إسرائيل، لإحياء المشروع، وطرحة على قمة الأرض في جوهانسبرغ، حيث قوبل بمعارضة عربية.
وسنعود إلى تحليل هذا البعد السياسي لاحقاً، لنتحدث عن المشروع نفسه. وهو ضروري بصورة ملحة للأسباب التالية:
1. لتأمين مياه رخيصة التكلفة للاستهلاك المنزلي.
2. لتأمين موارد مائية لمشاريع زراعية وصناعية جديدة.
3. لتوليد الطاقة الكهربائية بالاستفادة من الميزات الطبوغرافية.
4. لإنقاذ البحر الميت من الجفاف
ومن الواضح أن البنود 1 و2 و3 تهم الأردن، بينما تستفيد “إسرائيل” وفلسطين من البند الرابع بحكم أنهما تشاطئان البحر الميت.
والتصور الحكومي لإنجاز المشروع هو نفس التصور الكمبرادوري: تسليم مفتاح! إنشاءات ضخمة بعطاءات دولية ممولة بمنح وقروض دولية، وبعمالة وخبرات أجنبية…إلخ كما لو كانت الحكومة تريد شراء سيارة مرسيدس موديل 2002!
هذا التصور بالذات هو الذي قاد الحكومة الأردنية إلى التفكير بمشاركة إسرائيل من أجل الحصول على “الدعم” الدولي و”المنح” الدولية والقروض الدولية!
غير أنه-بهذا التصور الكمبرادوري-لن يرى المشروع النور أبداً. فلن تجد مستثمرين أجانب مستعدين لإنفاق المليارات على مشروع بنية تحتية في بلد نامٍ… على مشروع وطني سوف يكون له مردود، ولكن بعيد المدى… ومردود اجتماعي بالدرجة الأولى!
ومشاركة إسرائيل لن تفعل لنا شيئاً من أجل الحصول على أموال بهذا الحجم… وإذا جاءت تلك الأموال بقروض! فسيغدو عندها المشروع بلا جدوى! بل كارثة جديدة
هذا مشروع وطني. ولذلك، فلا مناص من التفكير بإنجازه في إطار الخبرات والإمكانات والقدرات الوطنية. وذلك عن طريق ما يلي:
1. حشد الطاقات الهندسية والفنية المحلية في هيئة مشرفة؛
2. حشد طاقات العمل المتطوعة من القوات المسلحة والطلاب
3. تشغيل آلاف العاطلين عن العمل
4. حشد الرأسمال المحلي وراء المشروع الوطني عن طريق حملة وطنية سياسية-إعلامية، وأيضاً عن طريق الضغط الاجتماعي-السياسي
5. إصدار سندات القناة المحلية لبيعها من قبل المواطنين
6. الحصول على الخدمات اللوجستية وغيرها من الإدارات الحكومية
7. تأمين القروض البنكية الصغيرة للشباب الراغبين في إنشاء مشاريع صغيرة، زراعية أو صناعية أو خدمية، على طول خط القناة…
8. المشاركة المالية والفنية والسياسية للنقابات المهنية
وباختصار هذا مشروع نبنيه بأيدينا وبأموالنا؛ ولا يمكن أن يتم بناؤه بطريقة أخرى. إذا فعلناها، وتجاوزنا الذات فسنحقق قفزة تنموية عالية وحقيقية وسننهض بمستوى معيشة عشرات آلاف الأسر والأهم بأننا سنعطي للمواطن الأردني قضية وطنية تنموية تمس حياته، وتكون محور حياته… ومحوراً للنهضة الأردنية المأمولة.
فـ”المشروع”، إذاً، أنموذجي من أجل حشد وتشغيل كل الطاقات الوطنية، وبلورتها في إنجاز محوري سوف يكون قاعدة للإنجاز في كل القطاعات الاقتصادية كما للتطور الاجتماعي والثقافي والتقاني في بلدنا.
ومن أجل تحقيق هذه الأهداف… لا بد من استبعاد إسرائيل التي ستؤدي مشاركتها في “المشروع” إلى تعليقه… وإذا مشى، فإلى جعله مكلفاً جداً وخاسراً اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً وثقافياً.
…لن يأتي المتطوعون إليه،
ولن يدفع الرأسمال المحلي فيه قرشاً،
وسنضطر إلى المزيد من الخبرات الأجنبية، والمزيد من العمالة الأجنبية، والمزيد من القروض… والمزيد من الخضوع للتحالف الأميركي-الإسرائيلي!
وقد يقول قائل إن الرأسمال المحلي-وكذلك القوى المالية كالنقابات المهنية -إنما تحتج بالمشاركة الإسرائيلية، لتمتنع عن واجب المشاركة الوطنية.
ونقول: أبعدوا إسرائيل، أولاً، ثم انظروا:
سنحول المشروع إلى قضية!
والمشاركة في إنجازه – بالمال أو الخبرة أو العمل – نضالاً
والامتناع عنه… خيانة
وسنجري تحويلاً في عقلية العمل – بحيث يصبح العمل اليدوي في المشروع بالنسبة للجامعي الأردني، شرفاً
وسنطلق الأغاني التي تجعل من العمل في القناة-بحد ذاته-وبغض النظر عن طبيعته، قيمة لذاته!
وسنحرض الصبايا على ألا يحببن الشباب الذين لا يذهبون للعمل في “القناة”…
وهذا كله ممكن… بشرط استبعاد إسرائيل… واستبعاد الكمبرادور والعقلية الكمبرادورية (استيراد المشروع تسليم مفتاح!)
***
إسرائيل هي التي خربت بيئة البحر الميت. إن سرقتها (المستمرة) لمياه أعالي نهر الأردن، هي التي حرمت وتحرم البحر الميت (المتلاشي) من التزود الطبيعي بالمياه، واضطرت سورية والأردن إلى الإفادة من نهر اليرموك وروافد الأردن الأخرى، للحصول على بعض الحصة العربية من مياه حوض الأردن.
…. فمات النهر…. ويموت البحر (الذي هو أعجوبة الطبيعة المبدعة في الإقليم الأردني -الفلسطيني) بانخفاض مساحة مسطحه المائي من 900 كم إلى 650 كم!
***
إسرائيل كيان غير طبيعي في منطقتنا، ولذلك، فقد كان لقيامها واستمرارها أسوأ الآثار على الطبيعة. وهل هناك جريمة أكبر من استقدام ملايين المهاجرين من المناطق الرطبة كثيرة المياه إلى منطقة جافة شحيحة المياه، ومن ثم تزويد هؤلاء المهاجرين بمياه ليست لهم-على أرض ليست لهم-وبحصة اغتصابيّة للاستهلاك بالمعايير الأوربية.
***
لقد كان على الوفد الأردني-في رأينا-أن ينقل هذه القصة السوداء إلى قمة الأرض في “جوهانسبرغ”. ولكنه، بدلاً من ذلك، عرض مشروعاً لإنقاذ البحر الميت… بالتعاون مع إسرائيل!!؟
***
المشروع بحد ذاته، ضرورة بيئية واقتصادية للأردن، ولكن بشرط أن يكون أردنياً 100 بالمئة: قناة تربط البحر الأحمر بالبحر الميت عبر الأراضي الأردنية لن تنقذ البحر الميت فقط، ولكنها ستزود الجنوب كله بمياه كافية للاستهلاك المنزلي والزراعة والصناعة وإنتاج الطاقة الكهربائية والسياحة…. إلخ.
والسؤال: لماذا الإلحاح على الشراكة مع إسرائيل؟
… إذا كان الهدف هو استقطاب تمويل دولي. فهذه قلة عقل جربناها منذ العام 1994 وكانت حصيلتها صفراً مدوراً. ولعل لدينا من الخيبات ما يحفزنا إلى استئصال عقلية الاستعانة بإسرائيل من أجل مخاطبة العالم حول مشاريعنا. لن يدفع أحد لنا فلس أحمر تحت يافطة “السلام” والتعاون الإقليمي… وإلى ما هنالك من شعارات ال 94 الخائبة. انظروا، فقط، إلى مصير، “المناطق الصناعية المؤهلة” كيف أصبحت بلا جدوى جراء المشاركة الإسرائيلية؟! القطار واقف. فلماذا تصرّون على إضاعة الوقت بالجلوس فيه؟!
***
بالمقابل، اعترضت مصر وسورية وفلسطين -عن حق-على المشروع الأردني-الإسرائيلي. أولاً، لأنه يتعارض مع قرارات القمة العربية في بيروت بمقاطعة إسرائيل؛ وثانياً، لأنه من غير المعقول ومن غير اللائق أن تتبنى المجموعة العربية مشروعاً مع إسرائيل التي-عدا عن احتلالها المستمر للأراضي العربية-تمارس يومياً أبشع المجازر الوحشية ضد الفلسطينيين، تقتيلاً واعتقالاً وتجويعاً!!
وأحياناً… أفكّر بأننا نتخذ مواقف بلهاء أكثر مما هي خاطئة: فمشروع أردني-إسرائيلي، الآن، لا يجلب لنا التمويل الدولي-بل الفضيحة بين العرب… وتهشيم صورة الأردن عند الشعوب العربية.
***
متى نتخلص من هوس العلاقات الثنائية مع إسرائيل؟! متى ندرك أنه من المستحيل القفز فوق الصراع العربي-الإسرائيلي… لإقامة علاقات ثنائية مع العدوّ؟! ويمكن أن تكون “طبيعية”؟! ويبتلعها العرب؟! وأي معنى لأن يكون الوفد الأردني ضد إسرائيل المحتلة… ومع إسرائيل “الجارة” يسوّق معها مشروعاً مشتركاً؟!
***
لو ذهبنا إلى “جوهانسبرغ” بمشروع أردني 100 بالمئة لشق قناة البحر الأحمر-البحر الميت، لأيده العرب حتماً… ولكان الصوت الأردني-المدعوم عربياً-عالياً في قمة الأرض: أنقذوا البحر الميت! ولاستمعت وفود دولية كثيرة إلينا بانتباه. ولكننا آثرنا التقدم بمشروع ثنائي مع إسرائيل… هكذا تحول الانتباه من القضية نفسها (خراب بيئة البحر الميت) إلى قضية سياسية من الدرجة العاشرة، وإلى مماحكة أردنية-عربية حول المشروع من شأنها، بالطبع، أن تضعفه دولياً، وتضعه على الرفّ. فالعالم ينظر إلى المنطقة ككل. ولا أحد، عاقلاً، في هذا العالم يمكنه أن يقبل المنطق الأردني الرسمي بالقفز عن الصراع العربي-الإسرائيلي المستمر إلى مشاريع مشتركة مع إسرائيل؟!
***
ولو كان المشروع أردنياً 100 بالمئة ومدعوماً من العرب… لكان بإمكاننا أن نطرحه بمعزل عما يجري في المنطقة… علماً بأن المشروع يمكن أن يصبح محور الحياة الأردنية، والنهضة الأردنية، في العقد القادم: يحشد القوى الاجتماعية والاقتصادية الأردنية، ويبث الحياة في شرايين الاقتصاد الوطني، ويجتذب آلاف وآلاف الشباب للانخراط في قضية وطنية. وكل هذا سوف تعصف به المشاركة الإسرائيلية. فشعبنا-مثل الشعوب العربية-يرفض التعاون مع إسرائيل… وينظر بقلق إلى الشراكة معها. وهو ما سيشل مساهمة المجتمع الأردني في “المشروع”… ويحوله من محور للإجماع الوطني إلى محور تهديم وفرقة ومخاوف.
***
لماذا مشاركة إسرائيل؟
لأسباب فنية؟ هذه يمكن معالجتها.
لأسباب تمويلية؟ هذا مجرد وهم.
لأسباب سياسية؟ بمعنى أن مشاركة إسرائيل ستضمن موافقتها على المشروع؟ هذه تحتاج إلى وقفة.
أوهام النهج الكمبرادوري-الإسرائيلي وحقائق النهج الأردني
Posted in Uncategorized.