ناهض حتّر
حمل رئيس الوزراء، فيصل الفايز، “حزمة” إجراءات اقتصادية تتضمن زيادات في الأسعار وفي الرواتب، إلى مجلس النواب… وألحّ على عرضها في جلسة علنية، والتصويت عليها. وقد رفض النواب هذه “الحزمة” وبدا أن الرئيس في مأزق. فهو لا يستطيع أن يتجاهل الرفض النيابي “للحزمة”… بينما هو “ملزم” باتخاذ قرارات صعبة لمعالجة نسبة العجز في الموازنة العامة.
ويتعرض الفايز للانتقادات بسبب التزاماته النيابية، وخصوصاً بسبب تجاهله “نصائح” تجنبه الوقوع في هذا “المأزق”… يرى أصحابها أن الرئيس يفتقر إلى “القوة” و”المهارة” اللازمتين من أجل تمرير القرارات المطلوبة. ونحن نعتقد أن هذه الوصفة السامّة لا تلزم الرئيس ولا تخدمه.
لقد بدأ الفايز رئاسته بلقاءات موسعة مع القوى السياسية وممثّلي الرأي العام؛ وأعلن –مراراً – بأنه رجل تفاهمات وتسويات. وهذه بداية صحيحة، ويظهر أن الرئيس يأخذها مأخذ الجد. وهو يحاول التأكيد على أنه ينظر إلى نفسه بصفته سياسياً –بمعنى الكلمة– لا بصفته إدارياً “قوياً” “وماهراً” في تنفيذ التوصيات الفنية “للمجموعة الاقتصادية” على الضد – وعلى الرغم – من إرادة المجتمع وتعبيراته السياسية.
إن السلطة تغري بالدكتاتورية الإدارية ومجابهة المعترضين بالبطش… وهذا ما فعله رؤساء وزارات سابقون أظهروا ” القدرة” – السيئة الصيت– على مجابهة المجتمع وقواه، فعمقوا الأزمة العامة للبلد، وخرجوا من الحكم، مغضوباً عليهم من الشعب، ومصنفين في خانة “الإداريين” لا في خانة السياسيين.
والمعالجة السياسية للأزمات، تتطلب القيام بدور صعب هو إنشاء أطر للتفاهم بين المتناقضات. وهو ما يعرض السياسي للضغوط، ويدخله في مآزق مختلفة، بل ويظهر، هنا وهناك، وكأنه “ضعيف”… غير أن التعامل مع الضغوط، و”المآزق”، والقبول بالتراجع، والتواصل إلى تسويات… هي من شروط السياسة. وأنا آمل أن يتمسك الفايز– حتى النهاية – بطموحه إلى أن يكون رجل السياسة– لا رجل الإدارة في الدوار الرابع.
غير أن الخطوة المطلوبة من الرئيس للخروج من المأزق الذي يزداد ضيقاً منذ 15 عاماً، هي خطوة نوعية باتجاه إقامة تفاهم اجتماعي–سياسي جديد في البلاد. وهو ما يفرض مراجعة شاملة للسياسات الاقتصادية الحكومية المقررة على أساس (1) اتباع العقيدة الليبرالية الجديدة (الخصخصة الشاملة) التي تضع مصالح رجال الأعمال فوق مصالح المجتمع والدولة (2) واتباع وصفة صندوق النقد الدولي التي تضع مصالح الدائنين ومصالح رأس المال الأجنبي فوق المصالح الوطنية (3) وذلك مع استمرار الهدر والفساد وتأمين مستوى عيش للنخبة يماثل مستوى عيش النخبة الأوروبية والخليجية!
وكمثال على لاعقلانية الليبرالية الجديدة، أشير إلى(1) أن الأرباح التي حققتها وتحققها شركة خاصة من عطاءات تدريب الشرطة والكادرات العسكرية العراقية، كان يمكنها –وحدها– أن تسعف الموازنة العامة لسنة 2004، وتخفض العجز، وتغطي الزيادات في الرواتب (2) إن أموال الخصخصة (الناجمة عن بيع الأصول الوطنية) المهدورة في برامج ونشاطات غير منتجة أو للترويج لسياسات الليبرالية الجديدة وتدعيمها وزيادة نفوذ أصحابها، يمكنها أن تكون أساس كتلة مالية لإقامة استثمارات مختلطة ( بالشراكة بين القطاعين العام والخاص) تؤمن عوائد للخزينة (وتساهم في معالجة العجز) وكذلك فرص العمل للعاطلين والأرباح للقطاع الخاص الوطني.
ولقد آن الأوان – بعد 15 عاماً– من الخضوع لصندوق النقد الدولي – أن ندرك أننا نمضي في طريق مسدود؛ إذ لا يمكن التوفيق بين إلغاء الدور الاقتصادي للدولة والقطاع العام… وفي الوقت نفسه زيادة الاستثمارات وتحقيق نسب نمو عالية. فالدول التي تحقق نسب نمو عالية –خارج المراكز الرأسمالية– هي تلك التي تركز على القطاعين العام والمشترك وتخضع الاستثمارات الخاصة للسياسة الاقتصادية العامة – مثل الصين وكوريا الجنوبية.
كذلك، فإنه من غير الممكن التوفيق بين معالجة هيكلية المديونية العامة، بل والحد من تفاقمها– وبين “حرية التجارة” وفتح الباب على مصراعيه أمام المستوردات من الخارج والتمويلات المالية من الداخل.
إن ما يسمى بسياسات الإصلاح الهيكلي … جعلت “العجز” هيكلياً في بنية الموازنات العامة، وذا ميل تصاعدي… وإذا ما أضفنا إلى ذلك، قيام الغزاة الأميركيين بشطب المنحة النفطية العراقية للأردن، فإننا نجد أنفسنا أمام معضلة تحتاج إلى حل جذري. وهذا الحل ليس ممكناً في إطار السياسات الاقتصادية القائمة. إنها -بالعكس– تفاقم الأزمة. وإذا كان رئيس الوزراء مصراً على إقامة إطار سياسي للتفاهمات الوطنية، فربما يتوجب عليه، القيام بمراجعة شاملة لأسس وآليات إدارة الاقتصاد الوطني.