اليوم السابع
ملحق العرب اليوم
ناهض حتّر
أعرف الدكتور يعقوب زيادين، منذ وقت لا أستطيع تحديده، أي أنني لا أعي، بالضبط، متى سمعت باسمه، لأول مرة، في طفولتي. وكان الأطباء المناضلون، مثل د. زيادين و د. منيف الرزاز، و د. عبد الرحمن شقير، قد اخترقوا وعي الأحياء الشعبية، ومثلوا، لدى الناس، قيماً جديدة للرجولة، تستحق التبجيل، بصفتهم رموزاً للتفوق الأخلاقي. ويا للأسف أن المناضلين بعد حقبة الخمسينات والستينات، ظلوا حبيسي النادي السياسي، ماعدا استثناءات محدودة لم تستطع أن تقدم نفسها كنماذج أخلاقية مهيمنة؛ بينما برزت، بالمقابل، النماذج السلفية. ولكن هؤلاء الأخيرين شيء آخر، وله قصة أخرى.
عرفت إذا، وفي غبش الوعي الطفولي، الدكتور زيادين، وعرفت أنه “شيوعي”. فمن هو الشيوعي؟! إنه طبيب وإنسان رؤوف ويعالج الفقراء مجاناً من دون أن يستعلي عليهم، بل انه يصادقهم ويحدثهم، ويشجعهم. وهو وطني، ويدافع عن البلد، ويتحدى الحكومة، وعنده قدرات خارقة في الصمود أمام بطشها. وكان هذا هو الساحر في شخصية زيادين: الجمع بين تحدي الحكومة وصداقة الفقراء، وبين التميز المهني والاجتماعي واتقاد المشاعر الوطنية والشعبية.
كنا سكن في حيّ وادي السرور على مقربة من جسر الحمام، ويليه شارع الملك طلال، حيث عيادة الدكتور زيادين التي طالما تشوقت لزيارتها، وأنا أمر في الشارع، وأنظر، بمشاعر متأججة، إلى اليافطة الصغيرة السوداء، وعليها اسم الدكتور. وقد دخلتها، بعد وقت طويل، العام ١٩٧٧، حين ذهبت إلى “الدكتور”، أسلّم عليه، وأرجو معالجتي من آلام شديدة نجمت عن تعرضي للضرب المبرح بالعصي أثناء اعتقالي.
كانت شمس الخريف تأتي من نافذة العيادة خفيفة بالكاد تضيء وجهه السمح. وكان عطوفاً معي كأب. شجعني وهوّن عليّ. وعندما شرحت له ما حدث معي قال: “…”… وكأنه تذكر، في لمحة واحدة، مقاطع من التعذيب الجسدي الذي عرفه في المعتقلات.
أنموذج د. زيادين هو الذي شدني للاقتراب المبكر من الشيوعيين. ولم يكن ذلك عن طريقه، ففي النصف الثاني من السبعينات كان الحزب الشيوعي موجوداً في كل مكان. وفي مدرستي الثانوية في الأشرفية (ثانوية حسن البرقاوي) كان في صفي، وحده، طالبان منتسبان إلى “اتحاد الطلبة” التابع للحزب الشيوعي.
وفي السنوات الطوال لصداقة كان لها في قلبي، دائماً، ذلك الوهج الفريد، ظل د. زيادين (أبو خليل)، عندي، فوق كل اعتبار سياسي، وخارج الخلافات، وفوق المناقشة… إلّا في لحظة قصيرة من العام 1990، حين اتخذ، مع قسم من الشيوعيين الأردنيين، ما رأيت أنه موقف خاطئ من العراق في صراعه مع التحالف الخليجي-الأميركي. وعلى الرغم من أنني ما أزال عند رؤيتي وموقفي، فإنه يؤلمني أنني استخدمت أسلوباً قاسياً في الكتابة ضد موقف الدكتور، في لحظة كانت، على كل حال، فائرة بالعواطف الجياشة.
وحين أصدر الدكتور زيادين، مطلع الثمانينات، كتابه “البدايات”… هزني من الأعماق هذا الكتاب البسيط الذي يصور حياة مناضل تمثل القيم الإنسانية العميقة للتراث الأردني والطوبى الشيوعية. لم أبحث، في الكتاب، عن “تحليل ماركسي” للمجتمع الأردني، لاحظ النقاد، غيابه، فما كان يهمني، وهو، عندي، الجوهري، تلك الأحلام بحياة أجمل… وذلك الشوق إلى التوحد مع أوجاع البشر وأحزانهم، وتمثل آمالهم والنضال من أجل تحقيقها.
لقد ألهمني كتاب زيادين، “البدايات”، قصيدة طويلة ما زالت “تعيش” في وجداني. لقد تابعت د. زيادين الشاب، وهو يعد الخطى إلى مكتب الحزب الشيوعي اللبناني في “الخندق الغميق” في بيروت، ليحصل على منشوراه، ويرى، من خلالها، العالم الجديد الموعود. وتأملت تلك اللحظة من الوله بالاكتشاف، كأنني أتأمل جوهرة مشعة فريدة.
أصبح منزل د. زيادين، في عمان الثمانينات، منتدى ثقافياً وسياسياً لليساريين والوطنيين. فبينما كانت الأحكام العرفية تطبق على حياة عمان، وتغلق الأبواب والنوافذ أمام مئات المثقفين التقدميين والوطنيين الطامحين إلى التعبير عن أنفسهم، والتواصل فيما بينهم، والمشاركة في العمل العام، كان منزل د. زيادين الكريم والودود والمتفهم، ملتقى لهؤلاء. وبغض النظر، عما إذا كان زواره من الشيوعيين أو سواهم من المثقفين والحزبيين والنشطاء النقابيين، كان أبو خليل يهلل لزائريه الكثيرين، يستقبلهم بابتسامة عذبة وعبارات الترحيب والمودة متمسكاً بكل تقاليد الضيافة الأردنية. ولطالما كانت تلتقي، عند “الدكتور”، مجموعات مختلفة من خلفيات حزبية واجتماعية وثقافية متعددة؛ تزوره للسلام، أو للنقاش، أو لترتيب نشاط سياسي أو ثقافي. لقد كان د. زيادين قطباً للحركة الوطنية الأردنية في الثمانينات. وهذا “الدور” ربما كان، من وجهة نظري، أهمّ من الأدوار النضالية العالية التي لعبها في الخمسينات، بما في ذلك نشاطه المرموق في القدس، وانتخابه عنها عضواً في البرلمان.
وفي الثمانينات، لم يعد أبو خليل شخصية شيوعية أو حزبية فقط، بل قائداً وطنياً يحظى بالاحترام والتقدير من كل أطراف الحركة الوطنية والمثقفين. وكان “الدكتور” يدعو، بصورة منتظمة، إلى لقاءات ثقافية خصبة يحضرها عشرات المثقفين التقدميين من مختلف الاتجاهات، حزبيين ومستقلين. وكانت هذه اللقاءات تعقد للحوارات الحرة أو للتنسيق النقابي أو تكريماً لزوار عرب كبار (أذكر منهم المفكر المصري اليساري محمود أمين العالم.)
وكان “الدكتور”، في كل هذه المناسبات جميعاً، مضيفاً كريماً، واسع الصدر، لا يتحيز لرأي، ويتيح للجميع، التعبير بحرية عن آرائهم… بما في ذلك المناقضة للاتجاهات الحزبية المقررة. وكانت تلك، نافذة طيبة الأنفاس والأضواء في جدار التزمت.
وعندما أتذكر، الآن، تلك الفضاءات التي كانت تنفتح لي، وللآخرين، في منزل الدكتور، أشعر بالامتنان العميق له، ولزوجته الكريمة المناضلة سلوى التي كانت تشرف على كل تلك النشاطات واللقاءات والولائم، بروح الأم والرفيقة… وزوجة القائد في آن.
وما زلت أذكر ذلك الصباح المشرق في أواسط الثمانينات، حين كان الزوجان الرائعان في استقبالنا، هاشم غرايبة الخارج من السجن تواً وعصام التل وسعود قبيلات وخالد مساعدة وأنا. وكنا قد قضينا الليل كلّه في رحلة إلى الطفيلة ومنها حيث اصطحبنا هاشم معنا… حراً. وقد ألحّ على زيارة أبو خليل… قبل أن يواصل إلى “حوارة”، … للقاء والديه!
لقد كان منزل أبو خليل… محجاً!
***
ما حدث في الـ ١٩٨٩… كان عاصفاً. لقد انهارت حقبة كاملة. ومضى بعض الوقت قبل أن نكتشف أنه كان تطوراً إلى الوراء! فالانتقال إلى الليبرالية، تمخض، وما يزال، عن آليات لامتصاص المثقفين في الطبقة الحاكمة ومؤسساتها. وبالتوازي مع إفقار الريف والفئات الشعبية، جرى إفقار الحركة الوطنية من الأطر القياديّة والدماء الشابة، ووصل البلد إلى طريق مسدود من الانقسام بين خيارين، ليبرالي كمبرادوري… وسلفي توطيني رجعي. وإلى أن يلمع البرق ويدوي الرعد من جديد، يظل منزل أبو خليل… منارة في القلوب الجريحة.