من أين تأتي، إذاً، قوة الاسلاميين الأردنيين؟

ناهض حتّر أظهر استطلاع (*) للاتجاهات الفكرية-السياسية للنخبة الأردنية نتائج غير منتظرة، بل ربما مفاجئة. فقد تبين أن ٦٣ بالمئة من السياسيين المستقلين وقيادات الدولة والوزراء السابقين والقيادات النقابية، المهنية والعمالية والنسائية والطلابية ورجال الأعمال وأساتذة الجامعات والمهنيين والصحافيين والكتاب والفنانين، يحبذون الأحزاب العلمانية؛ مقابل ٢٦,٤ بالمئة فقط من مؤيدي الاسلاميين. فمن أين تأتي، إذاً، الهيمنة الإسلامية على الحياة السياسية ومنظمات المجتمع المدني في البلاد؟
أنه سؤال يطرح نفسه بقوة، خصوصاً إذا ما علمنا أن ٣٠,٢ بالمئة من المثقفين الأردنيين (بالتحديد الاجتماعي السابق) يؤيدون الأحزاب القومية؛ و١٠,١ بالمئة منهم، الأحزاب اليسارية. أي أن ما مجموعه٤٠,٣ بالمئة منهم ما يزال على ولائه لقوى حركة التحرر الوطني العربية من البعثيين والقوميين والشيوعيين. وهي قوى تشكل-بالرغم من الخلافات الفرعية بينها-اتجاهاً واحداً بالمعنى السسيوثقافي، وجبهة متقاربة الرؤى والأهداف، بالمعنى السياسي. أضف إلى ذلك أن هذا الاتجاه (القومي-التقدمي) هو أقدر من الاسلاميين على استنهاض حلفاء من الاتجاه الليبرالي (الذي حصل على ١٣ بالمئة من أصوات المستطلعين) والاتجاه الوسطي-الوطني (الذي حصل على ٩,٧ بالمئة منها.) علماً بأن هذين الاتجاهين علمانيان، بل ربما كانا اكثر جذرية في الخلاف مع الاسلام السياسي، من القوميين واليساريين الذين يتشاركون مع الاسلاميين، في “هيئة التنسيق العليا لأحزاب المعارضة الأردنية.”
وربما كانت هذه “الهيئة” التي يقودها الاسلاميون، إحدى الآليات التي تبدد التفوق الكمي للقوميين واليساريين، وتحشدهم وراء “حزب جبهة العمل الإسلامي” الذي يطبع خطاب المعارضة الأردنية بطابعه، ويحدد أجندتها، ويحظى-وحده-بالتغطية الإعلامية، مما يظهر شركاءه القوميين واليساريين، أتباعاً ثانويين.
فكيف يقبل هؤلاء بموقع التبعية الذي يهمشهم فكرياً وسياسياً؟ سؤال قد يبادر الناقد المتحمس إلى معالجته بإجابة سهلة، فيرد الظاهرة إلى خور القيادات القومية واليسارية، وضعف إرادتها السياسية، وربما رغبتها الضمنية بالحصول على مكاسب انتخابية. بيد أننا نتحفظ على التفسيرات السيكولوجية للظواهر الاجتماعية -السياسية، بالإضافة إلى أن الإسلاميين الذين يتفننون في قطف ثمار التحالفات السياسية مع القوى الأخرى، يمتنعون، مبدأياً، عن التحالفات الانتخابية معها.
دعنا نلاحظ، إذن، أن الأغلبية الكمية للاتجاه القومي-اليساري موزعة على أحزاب صغيرة وجماعات ومستقلين كثر خارج التنظيمات، ما يجعل الإسلاميين الذين ما زالوا موحدين، إلى حد كبير، في حزب واحد ذي تنظيم متماسك نسبياً ومصادر تمويل ثرة، أكثر قدرة على التحشيد الحزبي والجماهيري والانتخابي، ما يعتبر مثالاً ممتازاً على قدرة الأقلية المنظمة والممولة جيداً، على الهيمنة.
إلا أن هذا، وحده، لا يكفي، بالطبع، للإجابة على السؤال المطروح. وهنا علينا أن نعترف بأنه ربما كانت الاتجاهات القومية واليسارية والليبرالية، أقلّ حضوراً بين الفئات الشعبية، منها بين الفئات النخبوية؛ وذلك بدون أن يقودنا هذا الاعتراف إلى استنتاج متسرع بأن الشارع الأردني هو، بالضرورة، اسلامي النزعة. فالحقيقة أن القوى القومية-التقدمية المشغولة بالانقسامات والندوات والصالونات السياسية، مؤلفة من بورجوازيين صغاراً معزولين عن الشارع، ويأنفون من الاتصال بالفئات الشعبية، بل ومن الاتصال بالأشخاص غير المسيسين من أعضاء النخبة. فهناك ١٩,٥ بالمئة من هؤلاء الأخيرين الراغبين بالانخراط في العمل الحزبي، يشكون من أن أياً من الحزبيين لم يتصل بهم بغرض تجنيدهم!
***
الاتجاه القومي-التقدمي ضعيف الهمة، ومشوش الأفكار، وممزق تنظيمياً، سواء على المستوى الحزبي أو على مستوى القدرة على تكوين المؤسسات الاجتماعية التي تلعب عند الإسلاميين، دوراً مزدوجاً. فهي تقدم فرصاً وظيفية جيدة لأعضاء النخبة، وتؤمن الخدمات الصحية والتربوية والخيرية للفئات الشعبية؛ وتخلق، بالتالي، شبكة من المصالح والعلاقات التي توفر هيكلاً صلباً للاتجاه الإسلامي. ويلعب التمويل، هنا، بالطبع، دوراً رئيسياً. فالمال يصنع القوة، والقوة، بدورها، تصنع المال!
وهكذا، فبينما يستطيع الإسلاميّ أن يستقلّ عن الدولة، في تحصيل معاشه وضمان مستقبله الشخصي والسياسي، فإن القومي-التقدميّ يظل في حالة تبعيّة لمؤسسات الدولة، ليس فقط من أجل توفير مستوى معيشي لائق، بل ومن أجل تأمين الموقع السياسي أيضاً. وقد اعترف ٥,٦ بالمئة من أعضاء النخبة الأردنية بأنهم ينأون بأنفسهم عن العمل الحزبي المعارض أملاً بالحصول على منصب رسمي، هو واقعياً، مدخلهم الوحيد لتحقيق زعامة سياسية تؤمنها، لاحقاً، قدرتهم على تقديم الخدمات لقواعدهم الشعبية المحتملة. وسيكون الثمن الذي يدفعونه هو التماهي مع الخطاب السياسي الرسمي والالتحاق بالسياسات الرسمية، ما يجعل “أفكارهم” ليست ذات معنى في الصراع السياسي الفعلي.
***
إلا أن عاملين رئيسيين يظلان، في رأينا، الأكثر قدرة على تفسير قوة الإسلاميين الأردنيين، بالرغم من الطابع العلماني للمجتمع الأردني، وهما: الفلسطينيون والنساء.
 فالحركة الإسلامية الأردنية، من حيث جسمها التنظيمي وأنصارها وبرنامجها السياسي ونشاطاتها، تشكل تعبيراً مباشراً عن ميول الأردنيين من أصل فلسطيني ومصالحهم وطموحاتهم الاجتماعية والسياسية.
إن الانتساب للحركة الإسلامية، أو تأييدها، يتيح للأردني من أصل فلسطيني، الاندماج في البنية السياسية للدولة الأردنية -التي تعتبر الإسلام السياسي إحدى ركائزها الأساسية -وذلك بدون أن يتخلى عن هويته كفلسطيني. فالهوية الإسلامية تتيح له أن يكون أردنياً وفلسطينياً في الآن نفسه؛ سيما وأن البرنامج السياسي للحركة الإسلامية هو، بالأساس، برنامج فلسطيني، أي أنه يدور حول القضية الفلسطينية بعامة، وحول تأمين الدعم السياسي والمعنوي لحركة المقاومة الإسلامية (حماس) بخاصة. ويستطيع المراقب أن يلاحظ، بيسر، أن صحافة الإسلاميين وبياناتهم ومهرجاناتهم الخطابية ومسيراتهم …إلخ تتركز، كلها، حول شؤون فلسطينية؛ بينما يظهرون أقل اهتمام ممكن بالقضايا المحلية. وهم يكتفون-فيما يتصل بها -بإعلان المواقف. بل إنهم، لدى احتدام الصراعات الطبقية والسياسية المحلية، يأخذون جانب الحياد أو الدعم الصريح للسلطات، كما حدث في الانتفاضات الشعبية في الأعوام ١٩٨٩ و١٩٩٦ و١٩٩٨.
 وخزان التأييد الثاني للحركة الإسلامية الأردنية، توفره النساء.
والحقيقة أنه بسبب السياسات الليبرالية التي اتبعتها الحكومات الأردنية، تقليدياً، إزاء النساء، من حيث المساواة في التعليم والعمل والحقوق المدنية والسياسية، فإن الأردنيات اكتسبن وضعاً مميزاً ومؤثراً في الحياة الاجتماعية والسياسية. وقد انصبت القوة النسائية، بالإجمال، في صالح الإسلاميين.
ويشير الاستطلاع إلى أن٧١,٤ بالمئة من النخبة النسائية الأردنية، يؤيدن الإسلاميين. وهذه مفاجأة أخرى بالنظر إلى أن هؤلاء صريحون في موقفهم الرجعي من النساء.
ولعله من المدهش أن النساء الأردنيات يعزفن عن تأييد القوميين وخصوصاً اليساريين الذين يعتبرون “تحرير المرأة” نقطة أساسية على برنامجهم، إلا أنه من المدهش أكثر أن ينصب تأييدهن على الإسلاميين، وليس على السياسات الرسمية التي سجلت، بالفعل، العديد من النقاط في مجال “تحرير المرأة” وتأكيد حقوقها المدنية. فهل تجد النساء الأردنيات، في الحركة الإسلامية، الإطار الملائم للحفاظ على رؤيتهن التقليدية، والانخراط، في الآن نفسه، في النشاطات السياسية والاجتماعية والتربوية؟
وهل توفر الحركة الإسلامية، للآباء والأزواج، الفرصة للتوفيق بين العقلية المحافظة والرغبة في “السماح” للبنات والزوجات، التعبير عن أنفسهن سياسياً، أو -على الأقل-“السماح” لهن، بمواصلة التعليم العالي والعمل والمشاركة في النشاطات العامة، “محصنات” بوعي ديني يضمن التزامهن بالتقاليد وبالولاء للعائلة؟! ما يعني، فعلياً، أن الحركة الإسلامية، تتيح فرصة فريدة للنساء للتحرر الواقعي بدون الاصطدام مع العائلات المحافظة؟
***
وفي إطار ما هو متوقع، سنرى أن الاسلاميين ليس لهم حضور يذكر (٢,٤ بالمئة) في صفوف الكتاب والصحافيين والفنانين، ولا في صفوف رجال الأعمال (٧,٧ بالمئة) إذ يميل هؤلاء للاتجاه الليبرالي (٣٩,٧ بالمئة). وبالمقابل فإن الحضور الإسلامي قوي نسبياً-في الجامعات. ويصل بين الطلاب إلى (٣٨,٥ بالمئة)، وبين المدرسين إلى (٢٥ بالمئة). ويشكل هذا الحضور الجامعي ذراعاً سياسية فاعلة للإسلاميين، خصوصاً لجهة القدرة على الحشد للتجمعات والمسيرات والنشاطات الجماهيرية الأخرى.
***
من أين تأتي قوة الإسلاميين الأردنيين؟ نوجز ونقول: من تحالفهم الثابت مع النظام، ووحدتهم التنظيمية، وقدراتهم المؤسسية والمالية، ومن استطاعتهم توفير الإطار الملائم لاندماج الفلسطينيين والنساء في الحياة العامة.
إلا أنها تأتي أيضاً من تمزق القوى التقدمية واليسارية، وتبرجزها، وعجزها عن بلورة برنامج سياسي مستقل يرتكز، رئيسياً، على المهمة… المحورية في الحياة السياسية الأردنية، وهي إنجاز التحول الديمقراطي في ملكية دستورية على النمط الغربي. وهي مهمة محورية، لأنه، بإنجازها، يتم تحصين الدولة الأردنية إزاء مشروع “الوطن البديل”، وتجاوز الانقسام الأهلي، وتأمين الإطار الملائم لنضال الفئات الشعبية من أجل حقوقها المعيشية والثقافية.
(*) الاستطلاع شمل عينة من (٧٩٢) فرداً من فئات النخبة الأردنية؛ أجراه مركزا “الرأي” و “انتلجنسيا للدراسات”، ونشرت نتائجه في صحيفة الرأي الأردنية، الخميس ٢٧/٩/٢٠٠١ .

Posted in Uncategorized.