العرب اليوم
شؤون أردنية
ناهض حتّر
سطر الشعب الفلسطيني في الاراضي المحتلة، منذ مطلع تشرين الاول الماضي وحتى الان، ملحمة كفاحية جديدة في تاريخه البطولي الذي اعطى للقرن العشرين العربي، بعض اروع صوره. كانت تلك: انتفاضة الاقصى… انتفاضة الجماهير الفلسطينية (والعربية) للدفاع عن رمز فلسطين وعاصمتها السياسية وعاصمة العرب الروحية: القدس، وقبلها: الحرم القدسي الشريف.
ومنذ الايام الاولى لانطلاقتها، حققت انتفاضة الاقصى اهدافها بالكامل، فاصبح مستحيلا، بالنسبة لاي زعيم فلسطيني او عربي، تقديم تنازلات من اي نوع تتعلق، على الاقل، بالسيادة العربية الفلسطينية على المقدسات الاسلامية والمسيحية، وكانت انتفاضة الاقصى، بهذا المعنى، رسالة مزدوجة: من الجماهير الى الحكام، ومن الحكام الى واشنطن وتل ابيب، تعين الحد الادنى المقبول، شعبيا ورسميا لنتائج المفاوضات الفلسطينية-الاسرائيلية.
وفي هذا السياق ظهر، واضحا، ان النظام العربي ما يزال قادرا على استيعاب ذلك الحد الادنى من المطالب الجماهيرية، والتوافق معها. وهكذا شهد الشهر الاول من انتفاضة الاقصى، نوعا من الاجماع الفلسطيني-العربي في الشارع… مثلما في اروقة الانظمة… والقمة!
وبعد هذا النجاح الاوليّ، لم تستطع انتفاضة الاقصى ان تحقق اي منجزات سياسية، وتقتضي واجبات المصداقية، الاعتراف بانها ارجعت الوضع الفلسطيني الى الوراء. فما الذي حدث؟
لقد قدم الفلسطينيون، بشجاعة واخلاص، دماءهم وابناءهم على مذبح الكفاح الوطني: اكثر من 500 شهيد، والاف الجرحى، في مواجهات يومية مع المحتلين، تخللها صمود اسطوري، وضربات انتحارية موجعة للعدو. ولكن بدون جدوى سياسية، ومن المعروف ان كل اشكال العنف، ابتداء من المظاهرات السلمية وانتهاء بالانتحاريين، هي، في النهاية، ادوات للسياسة. ولم تكن كل البطولات لتنفع طالما ان السياسة الفلسطينية، فقدت بوصلتها، وسط حمأة الكفاح الذي تصاعد بدون استراتيجية واضحة، بل في ظل اتجاهات متساكنة في وحدة وطنية ليس لها اساس صلب، ومتناقضة، بصورة مؤسفة، على لوحة سوريالية تبدأ بدعاة التحرير من البحر الى النهر ولا تنتهي عند دعاة الحلول الامنية الجزئية بل ووجد في الاطار العريض للانتفاضة، من يسعى الى تصعيد العمليات الانتحارية واستخدام مدافع الهاون، ومن يسعى، بالمقابل، الى تحييد اريحا من اعمال الانتفاضة ومن القمع الاسرائيلي معا، في صفقة ثنائية هدفها اعادة تشغيل الكازينو!
***
لقد بدا واضحا في سياق تطور المواقف الجماهيرية الفلسطينية والعربية، ان القاسم المشترك بين هذه المواقف، هو رفض تقديم تنازلات في المفاوضات مع اسرائيل، ولكن ليس الغاء اسلوب التفاوض نفسه. ولم يكن جادا تحديد اهداف للانتفاضة تتجاوز سقف اتفاقيات اوسلو 1993، وفي الوقت نفسه، الاستمرار في تأييد السلطة الوطنية الفلسطينية، الناشئة، بالاساس عن تلك الاتفاقات – وهي ذات طابع امني من حيث الجوهر – ولم يكن، كذلك، ذا جدوى اتباع وسائل عسكرية في ظل اطار سياسي ملتزم امنيا. فالاطار السياسي المسيطر هو الذي يحدد، في الاخير، الاهداف السياسية العامة. وهي-بالنسبة للسلطة الوطنية الفلسطينية-تتمثل في استمرار وجودها، اولا، واستمرار المفاوضات السلمية مع اسرائيل برعاية اميركية، ثانيا، وصولا الى حل دائم (تريده غزة بالطبع ممثلا لمطالب الحد الادنى الفلسطينية ولكن، حتما، في سياق التفاهم مع تل ابيب وواشنطن). وليس بين هذه الاهداف ما يفرض استخدام الوسائل العسكرية، بل ان هذه الاهداف تتطلب اظهار السلطة الفلسطينية، بوصفها قادرة على ضبط الامن كليا. وهذه القدرة الامنية هي، بالذات، رأسمالها الاساسي في المفاوضات.
وهكذا، فان الاتجاهات والتيارات الفلسطينية، غير الخاضعة، من حيث الاستراتيجية والتكتيك، وبصورة كاملة، للقرار الرسمي الفلسطيني، لا تستطيع ان تتجاهل الاختيار الحاد المطروح امامها بين استراتيجياتها واساليبها الخاصة، وبين اعترافها وقبولها بالسلطة الوطنية الفلسطينية، مثلما لا تستطيع الاخيرة ان تتجاهل الاختيار الحاد المطروح على كل هيئاتها وعناصرها، بين برنامج التحرير الوطني بالكفاح الجماهيري والمسلح، في سياق الصدام التاريخي مع الحلف الاسرائيلي الاميركي، وبين برنامج المفاوضات الثنائية في سياق التفاهم التاريخي مع ذلك الحلف.
***
… ولأن الافق السياسي ترسمه في النهاية، القوى المسيطرة، فان صورة القوى المضادة، تبدو كاريكاتورية عندما تقبل بسيطرة خصومها السياسيين، ثم تسعى، في الوقت نفسه، الى افتتاح افق سياسي اخر. انها سياسة تدفع الجماهير ثمنها الغالي من دمائها ومعيشتها. وقد آن الأوان، لكي يراجع الشعب الفلسطيني، بحزم، الموقف كله؛ ويسأل: إذا كان السقف السياسي المسيطر امنيا (وقد انتهت «الانتفاضة» بالفعل، الى وثيقة امنية) فلماذا، إذن هؤلاء الـ 500 شهيد وهؤلاء الالاف من الجرحى وهذا الجوع والعذاب؟!
***
اثبتت انتفاضة الاقصى ما يلي:
1-ان الطاقات الكفاحية المختزنة لدى الشعب الفلسطيني لم تنضب، وانه ما يزال قادرا على خوض معارك بطولية في اطار حرب طويلة ضد المشروع الصهيوني.
2 – ان القضية الفلسطينية ما تزال حية في وجدان الجماهير العربية، فاذا حدد الفلسطينيون استراتيجية وطنية موحدة للكفاح، فانهم يستطيعون الاعتماد على تضامن عربي فعال.
3 -ان السلطة الوطنية الفلسطينية، الناشئة عن اتفاقات اوسلو، الامنية الطابع، لا تستطيع، بالتالي، ان تقود او تثمر اشكالا كفاحية تتجاوز السقف الامني والسياسي لتلك الاتفاقات.
4 – ان المعارضة الفلسطينية لا تستطيع ان تتجاوز السقف السياسى للسلطة الوطنية الفلسطينية.
5- اتخذت السلطة الفلسطينية؛ بكل اتجاهاتها وفئاتها، والمعارضة الفلسطينية، بكل فصائلها… سياسات، واهدرت امكانيات الشعب الكفاحية في معركة غير محددة الاهداف.
6-قبل الدفع بالناس الى التظاهر او الاشتباك او الاستشهاد، ينبغي، اولا، الاجابة عن هذا السؤال: مع «المفاوضات» في سياق التفاهم الامني السياسي مع تل ابيب وواشنطن ام مع الكفاح ضد الاحتلال وشروطه الامنية والسياسية في سياق حرب الاستقلال؟! ( وهو سياق لا ينفي المفاوضات، ولكنه يغير طبيعتها). هذا السؤال المركب هو السؤال الفلسطيني الآن.