العرب اليوم
ناهض حتّر
تلح اسرائيل على تصوير عدوانها الهمجي ضد الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وغزة، على هيئة حرب بين دولتين. ولذلك، فهي تستخدم، بدون ضرورة عسكرية، مقاتلات «اف 16» الحربية، عداك عن مروحيات «الاباتشي» المتطورة والدبابات والمدفعية والرشاشات الثقيلة، ضد المناطق الفلسطينية، ويساعدها على تبرير هذه الصورة وذلك الاستخدام المفرط للقوة العسكرية، شيئان:
– وجود السلطة الوطنية الفلسطينية، بكل ما لها وما تدعيه لنفسها شكلياً من مظاهر الدولة.
– قيام عناصر من «فتح» و«حماس» معاً باطلاق النار من اسلحة خفيفة وهاونات ضد المستوطنات الاسرائيلية.
وهذه الصورة، صورة الحرب بين دولتين، مهمة جداً لاسرائيل، بوصفها اساساً لدعاواها الدبلوماسية والاعلامية لدرء الاحتجاج والتدخل الدوليين في الاحداث، وتقييد القمع الذي يمارسه محتلون ضد السكان المدنيين، مثلما حدث في انتفاضة 1987. اما مضمون الاستخدام المفرط للقوة الحربية ضد المناطق الفلسطينية، فهدفه تهجير السكان خارج هذه المناطق، الى الجهة الوحيدة المتاحة، وهي الاردن.
واذا اردنا ان نواجه الحقيقة، فإن الاستراتيجية الشارونية هذه، تحرز نجاحات. ذلك ان العديد من المدنيين المشاركين في فعاليات الانتفاضة، يتناقص، ما يهدد طابعها الشعبي؛ وتظهر اوساط اجتماعية متزايدة في الضفة الغربية وغزة، ميولاً الى «التهدئة» وهو وضع يقود الى عزل السلطة الفلسطينية (ومعارضاتها) عن المجتمع الفلسطيني، وبالتالي الى اضطرار «السلطة» الى المزيد من التنازلات والمساومة، واضطرار «المعارضات» الى المزيد من التطرف المعزول.
وربما يكون في هذه النتيجة التي آلت اليها انتفاضة الاقصى، ما يبرر الدعوات الى وقفها، والتوصل الى لحظة اطفاء وتبريد عبر المبادرة الاردنية -المصرية وتقرير لجنة ميتشل، اللذين ترى السلطة الفلسطينية فيهما، الان، «رؤية متكاملة» لانهاء الصدام، والعودة الى طاولة المفاوضات.
وهناك، بالمقابل، من يرى ان وقف الانتفاضة بدون تحقيق اهدافها الاصلية، وهي اعتراف اسرائيل بالحقوق الفلسطينية (حدود الرابع من حزيران 1967، والدولة المستقلة وعاصمتها القدس وعودة اللاجئين) سيكون بمثابة نكبة جديدة.
في سياق «العملية السلمية»، حققت انتفاضة الاقصى، كل ما يمكنها تحقيقه في الشهر الرابع من انطلاقها في 28/09/2001 فهي اظهرت الرفض الفلسطيني، الشعبي والجماعي، للتنازل عن الحقوق الوطنية الفلسطينية، المعترف بها -وفي مقدمتها القدس -وهي استولدت تأييداً عربياً، جماهيرياً ورسمياً، للموقف الفلسطيني، في صحوة قومية لم تشهدها منذ زمن طويل، وهي، اخيراً، لفتت القوى الدولية -وخصوصاً الولايات المتحدة الاميركية -الى الحدود التي لا يمكن للسلطة الفلسطينية التراجع عنها في المفاوضات مع اسرائيل.
وطالما ان السلطة الفلسطينية لم تقطع مع «العملية السلمية»، وتنتقل، بالتالي، الى خيار المقاومة؛ فقد اصبحت الانتفاضة تكراراً بلا جدوى، واخذت تفقد زخمها السياسي والشعبي، سواء في فلسطين او الوطن العربي. فالمجتمع الفلسطيني الذي هيأ نفسه، حسب وعود «اوسلو»، للسلام والاستثمارات الخارجية والدعم الدولي، طوال ثماني سنوات من الآمال العراض بصيرورة الضفة والقطاع، «معجزة اقتصادية» على طريقة «هونغ كونغ» لم يكن مدرباً-بالتالي مستعداً-لتحمل اعباء مقاومة مديدة… سيما وانه جرت، خلال تلك السنوات، اكبر عملية تفكيك لبنى المقاومة الفلسطينية، ليس فقط عبر التنسيق الامني بين «السلطة» واسرائيل، وانما، ايضاً، من خلال مساعي «السلطة» الحثيثة لتأكيد سيطرتها السياسية والامنية، ضد كل القوى الاخرى في الشارع الفلسطيني.
ومن جهة اخرى، فإن الجماهير العربية -التي يصفها كاتب محلي مهووس بأنها تتكون من ثلاثماية مليون نكرة! – تتمتع بعقل جمعي حساس، يدلها على لحظات الفعل ولحظات الصمت. ولذلك، فإن الجماهير العربية، حين لمست الحد الادنى من الجدية في الموقف الرسمي الفلسطيني في كامب ديفيد-2، نزلت الى الشارع لدعم هذا الموقف؛ الا ان اتجاه السلطة الفلسطينية، لاحقاً، الى سياسات غامضة ومضطربة بين التصريحات الحامية والاتفاقات الامنية والقنوات السرية والعلنية مع الاسرائيليين -بمن فيهم رئيس الوزراء الارهابي ارئيل شارون-اعاد الجماهير العربية الى اشغالها اليومية اي الى ضرورات عيشها. والحركة الجماهيرية، كل حركة جماهيرية، لا تتعامل مع التفاصيل والغموض، بل مع المواقف الحاسمة والحازمة والواضحة. والجماهير العربية بالتالي، لا تشغل نفسها بالصراع السياسي الضمني او العلني بين السلطة الفلسطينية وحركة المقاومة الاسلامية «حماس» بل ترى الى الموقف الفلسطيني الاجمالي. وربما يستطيع الاخوان المسلمون الاردنيون، ان يحشدوا بضعة آلاف في مهرجان خطابي في مخيم البقعة، يعيد تمثيل مهرجانات «حماس» في المناطق الفلسطينية -بما في ذلك الاستعراض الهزلي للملثمين-ولكن اغلبية الاردنيين -وهى التي لم توفر نفسها في مظاهرات تشرين الاول 2000 في كل انحاء المملكة -لا تجد نفسها معنية بهذه اللعبة! وهذا لا يعني انها غير مهتمة، فهي تتابع وتقرأ المشهد.
يوزع القادة الفلسطينيون، اوقاتهم على الفضائيات العربية، والمواطن الاردني والعربي يساهر، ليلياً، هؤلاء. ويلاحظ انهم مرتاحون ومهندمون، بل وسعداء بممارسة مهماتهم التلفزيونية اليومية بمخزون لا ينضب من الكلام، بينما يشاهد صور الشهداء والجرحى والمشردين ولوعة الامهات وذعر الاطفال، فيدرك ان ثمة خطأ جسيماً في الصورة كلها. وقد يخجل من التعبير عن ادراكه هذا، ولكنه، الى صمته، سوف يركن الى الانتظار.
***
كلفت صفقة «اوسلو» العام 1993، الشعب الفلسطيني، الكثير من مقومات الصمود والمقاومة: فك عزلة اسرائيل الدولية والعربية، اضطرار عمان الى التوقيع على معاهدة وادي عربة العام 1994، تحسين صورة اسرائيل وتمكينها من اختراق العديد من الدول العربية والصديقة، القمع الداخلي الكثيف بادوات وسجون فلسطينية، الفساد والافساد، تقطيع اوصال الضفة الغربية وغزة الخ وأخيراً، تمكين اسرائيل من تدمير الشعب الفلسطيني الاعزل تحت يافطة الحرب بين «دولتين»! فهل نجرؤ على تحديد المسؤولية التاريخية عن «النكبة الجديدة» ؟!
لم تقم السلطة الوطنية الفلسطينية بقوة السلاح، بل في اطار صفقة سياسية امنية مع اسرائيل، وبرعاية الولايات المتحدة الأميركية. وسوف يحافظ الاطراف على اساسيات هذه الصفقة، وبرعاية اميركية ايضاً. فلا اسرائيل سوف تصل الى حد شطب السلطة الفلسطينية من الوجود، ولا الاخيرة يمكنها ان تخرج على اساسيات الصفقة، سواء باقامة تحالفات عربية جديدة (مع دمشق مثلاً) او بحسم الموقف السياسي او بتصعيد المقاومة وتهيئة اسسها الوطنية. ولذلك، فإن الوضع الفلسطيني يراوح مكانه، بينما يتيح هذا الجمود للارهابي شارون أن يضغط باقصى قواه هادفاً الى تنفيذ ما يمكن تنفيذه من مشروع التهجير، قبل العودة الى طاولة المفاوضات.
وخارج هذا السياق المأساوي، هناك، بالطبع، الظاهرة الكفاحية المجيدة المتمثلة بالعمليات الانتحارية في العمق «الاسرائيلي». وهذا النوع من العمليات هو اسلوب كفاحي مجرب من شأنه ان يشلّ معنويات العدوّ ويدفعه الى اعادة حساباته، الا ان ذلك لن يحدث، طالما ظلت العمليات الانتحارية الفلسطينية تأخذ طابعاً ثأرياً، لا طابعاً سياسياً شروطه1) الخروج من صفقة «اوسلو» ومن «العملية السلمية» 2) الاجماع الفلسطيني على برنامج التحرير 3) المثابرة والانتظام 4) تحييد المدنيين.
وهي نفسها الشروط التي ادت الى الانتصار اللبناني.
***
السلطة الفلسطينية مواجهة الآن بضرورة الحسم، فإما المضي في صفقة «اوسلو» حتى النهاية وبدون تأخير، واما الخروج منها نهائياً وبدون تأخير، وسوى ذلك من اشكال المراوحة والغموض واللعب، فهو يعني تمكين اسرائيل من رقبة الشعب الفلسطيني، بدون طائل.
صفقة «اوسلو» لم تتضمن، ابداً، حدود الرابع من حزيران او الدولة المستقلة السيدة او عودة اللاجئين او القدس. والذين وقعوا عليها، وسوقوها على هذا الاساس، مطالَبون اليوم بالاعلان عن حقيقة الصفقة، ورغبتهم باتمامها، او الاعتراف بالخطيئة، والانسحاب من الحياة السياسية.
صفقة «اوسلو» غير قابلة للتحسين، فإما إتمامها أو الخروج منها:السلطة الفلسطينية في مواجهة لحظة الحقيقة
Posted in Uncategorized.