163 يوما

ناهض حتّر
اليوم، 29 تشرين الاول ،1956 تحلّ ذكرى عزيزة على قلوب الديمقراطيين الاردنيين، انها الذكرى الخمسون لتشكيل حكومة الحزب الوطني الاشتراكي برئاسة سليمان النابلسي «1956»، والتي عاشت 163 يوما فقط، ولكنها حفرت عميقا في الوجدان الوطني الاردني، واصبحت رمزا مشحونا بالمعاني والافكار والآلام والامال بالنسبة لثلاثة اجيال من النخبة الديمقراطية الاردنية.

كان الانجاز الابرز لحكومة سليمان النابلسي، هو الغاء المعاهدة الاردنية – البريطانية، وتحقيق الجلاء الانجليزي الكامل عن ارض الاردن، ولعلّ هذا الانجاز وحده كاف لكي يكلّل اية حكومة بالغار الى الابد. لكن اهمية حكومة النابلسي، الاستثنائية، تمثلت في كونها اول – وآخر – حكومة حزبية برلمانية في تاريخ الدولة الاردنية. ولعلّ – في هذا الاستثناء – ما يجعل هذه الحكومة رمزا يجسد في ذاته، برنامجا سياسيا دستوريا ديمقراطيا كاملا، طالما ناضل الاردنيون – وما زالوا – من اجل تحقيقه.

في 21 تشرين اول 1956 اجرت حكومة ابراهيم هاشم، انتخابات عامة نزيهة على اساس قوائم حزبية، وبنتيجتها، حققت القوى الوطنية التقدمية، فوزا كاسحا بحصولها على 16 مقعدا «من اصل 40 مقعدا»، كالتالي: الحزب الوطني الاشتراكي «11 مقعدا» والحزب الشيوعي «ثلاثة مقاعد» وحزب البعث «مقعدين». وبالنظر الى هذه الكتلة هي الاكبر في البرلمان المنتخب، والتزاما بالدستور والاعراف الديمقراطية، كلف الملك حسين، رئيس الحزب الوطني الاشتراكي، سليمان النابلسي بتشكيل الحكومة التي تألفت من الآتين: سليمان النابلسي «رئيسا للوزراء ووزيرا للخارجية» وعبد الحليم النمر «وزيرا للداخلية والدفاع» وصالح المعشر وشفيق رشيدان ونعيم عبد الهادي وانور الخطيب وسمعان داود وصالح المجالي وصلاح طوقان وعبدالله الريماوي وعبد القادر صالح.

ونحن نذكر – ونتذكر – هذه الاسماء اليوم، اعتزازا بسياسات هذه الحكومة المنسجمة كفريق سياسي متحالف. وعلى رأس تلك السياسات، اطلاق الحريات العامة وتسهيل ممارستها من قبل المواطنين، والعداء للاستعمار والصهيونية، وتمتين العلاقات الوحدوية بين الضفتين، واتباع نهج التضامن العربي، والسعي الى تنظيم وتطهير جهاز الدولة في اجراءات ما ان بدأت حتى تكونت جبهة اطاحت – من بين عوامل اخرى – بأول وآخر حكومة حزبية برلمانية في تاريخ بلدنا.

لم تعش حكومة النابلسي الا اياما معدودات، ما يجعل من الصعب الحكم على ادائها – وخصوصا في الجوانب التنموية والمدنية – ولكن يسجل لهذه الحكومة، حرصها الشديد – بل الحنبلي – على صلاحياتها الدستورية، وحفظ حقها الكامل في الولاية العامة على السياستين الداخلية والخارجية. وقد كان طموحها وديدنها هو ارساء تقاليد راسخة للنظام الملكي الدستوري في بلادنا.

بعد حكومة النابلسي، شهد تاريخ الحكومات الاردنية، قيام حكومات وطنية وشعبية – مثل حكومات وصفي التل – لكن ميزة حكومة 29 تشرين الاول ،1956 تظل ذات اهمية خاصة، من حيث تمثيلها للبناء الدستوري الاردني، نصا وروحا، وللمرء ان يتحسر على الفرصة التاريخية الفائتة التي كان من شأن اغتنامها ان يكون لدينا الآن نصف قرن من التراث البرلماني الديمقراطي، بدلا من رحلتنا الصفريّة، التائهة في البحث عن اطار سياسي للتطور الاردني.

لو استمرت الديمقراطية الاردنية، تعمل منذ ال¯ ،1956 فمن الارجح ان الدولة الاردنية تمكنت من تجاوز الكثير من المصاعب والتحديات الكبرى عبر نصف القرن الماضي.

واريد ان اشير، بصفة خاصة، الى ان الديمقراطية كانت هي الاطار الملائم لضمان وحدة الضفتين، وتلافي «منظمة التحرير»، والمنظمات الانفصالية او على الاقل، تحديد فعاليتها. وكذلك تلافي المشاركة في حرب حزيران الكارثية، وازمة ايلول ،1970 والنزاع المدمر على تمثيل الفلسطينيين. فالاحزاب السياسية المنتخبة هي التي كانت تملك شرعية التمثيل في الاطار الدستوري.

لو سرنا في خط حكومة النابلسي، ربما كان القطاع العام اكثر فعالية وكفاءة، والاكيد ان الفئات الوطنية الشعبية كانت اقدر على التصدي لنهج الخصخصة والليبرالية الجديدة.

الكثير من آلام الاعتقال السياسي والتوترات الامنية السياسية كان يمكن تجاوزها، بالاضافة الى تطوير ثقافة مجتمعية سياسية تقطع مع ثقافات وعصبيات ما قبل الدولة، ليست هذه بالطبع، مقالة في التحسر، ولكنها، اولا، تحية للعيد الخمسين لحكومة النابلسي. وهي، ثانيا، عودة الى الماضي من اجل المستقبل.

Posted in Uncategorized.