ناهض حتّر
كأنّ نهر الحبر العظيم-المُراق حول فلسطين-يسخر منا؛ وفجأة، نكتشف أننا لا نعرف شيئاً عن هذا البلد المقدّس-المقدس الى درجة انه فوق المعرفة. ولا شيء. في النص الفلسطيني، سوى التكرار المؤدلج الذي ينكشف، في مأزق الاقتتال الاهلي الحالي، عن خواء كامل.
كنّا نحسب ان الاقتتال الفتحاوي-الحماسي، هو مجرد استمرار لتقاليد الحروب الفصائلية الفلسطينية، ولكن ما نراه الآن في غزة والضفة الغربية هو تعبير عن انشقاق في الحساسية الاجتماعية-الثقافية، وصل حداً يسمح بالتحشيد للحرب الاهلية.
كيف نشأ هذا الانشقاق؟ ومتى؟ وما هي مكوناته وخلفياته ومآلاته؟ نكاد لا نعرف شيئا عن سرٍ تواطأت الاطراف على إخفائه! أين الماركسيون الفلسطينيون، والدارسون الليبراليون، وعلماء الاجتماع والنقاد والمحللون السياسيون-الاكثر انفاقا للحبر والكلام بين العرب-من توضيح المشهد الغامض لصراع داخلي، اتضح انه اكثر من عابر، واكبر من سياسي.
يمكننا ان نلاحظ، بالطبع، انه صراع حول السلطة: فتح تريد استردادها من حماس بأي ثمن.. وحماس تريد ان ترث فتح بأي ثمن.. ولأن هذا الصراع يجري في حيّز الاحتلال الاسرائيلي، وفي افق التفاهم معه.. فهو فاجع، جارح، لا عقلاني.. ولا يحظى بالشرعية.
بيد أن المهم، هنا، هو ان ذلك الصراع يمتلك آليات الاستقطاب والتحشيد، على المستوى الاجتماعي-الثقافي ولا نستطيع ان نقبل تفسيرات بسيطة لهذا المشهد المفاجىء من الانشقاق العميق.
الفريقان اللذان يستنفدان المجتمع الفلسطيني، ويهمشان بصورة فظة وحاسمة-كل القوى والرؤى الاخرى-يتقاتلان في سياق البرنامج السياسي نفسه. فتح-التي تتمتع بدعم الولايات المتحدة وحلفائها العرب-مستعدة لاجراء صفقة دائمة للتعايش مع الاحتلال، بينما تؤكد حماس انها الاقوى على اجراء “الصفقة” وضمانها. للعرضين-الفتحاوي والحماسي-صورتان مختلفتان ورطانتان مختلفتان، ولكن مضمونهما السياسي واحد. فالخلاف السياسي، اذا، لا يفسر الانشقاق الحاصل.. ومداه في قلب المجتمع الفلسطيني.
والمشكلة ليست في احتراب الفصيلين المتصارعين على استحقاق عقد الصفقة مع العدو-الشريك، بل في ان المجتمع الفلسطيني، مستعد-كما هو واضح-لتزويد الفصيلين المتحاربين، بالدعم الجماهيري والمقاتلين المؤهلين بالتعصب والحقد الكافيين للقتل..
هذه هي المنطقة الغامضة التي تحتاج الى ايضاح يسكت عنه الجميع في تواطؤ على شطب المعنى، اي شطب امكانية المعرفة والنقد التاريخي، والمشاركة فليس امام الفلسطينيين سوى التصفيق في مهرجانات المتصارعين على السلطة وتزويدهم بالمقاتلين وليس امام العرب، سوى التورط في تأييد فريق ضد الآخر، او الدعوة-الحسنة النوايا-الى حقن الدماء.
أهو، اذا، انشقاق بين حساسية ثقافية علمانية، وأخرى دينية، وصل حدّ التصلب والاقتتال؟ سؤال يطرح سؤالا. ام انه انشقاق بين “المحليين” و “اللاجئين”؟ بين الداخل والخارج، بين “الضفة” و “غزة”؟ او حتى بين “الضفة” في “غزة”، و “غزة” في “الضفة”!؟ ام انه صراع التحالفات العشائرية؟ ام انه كل ذلك في لوحة معقدة؟
بل ربما تكون هذه “اللوحة” نتاجا لإعالة المجتمع، بالمساعدات والتمويلات السياسية، بحيث تنشىء الآليات السياسية للتمويل والاعالة، حولها، هياكل العصبيات والحساسيات؟!.
هل تكون جريمة “اوسلو” الكبرى انها حولت الفلسطينيين من خزان عمالي للاقتصاد الاسرائيلي الى خزّان متفرغين في الاجهزة والسرايا والكتائب، بحيث اصبحت الديمقراطيات السياسية، قادرة على اعادة صياغة المجتمع واستقطابه، في سياق اجنداتها السلطوية؟.
اسئلة برسم الاجابة، بل المعلومات والحوار والنقد فلا يمكن لفلسطين ان تضيع في الواقع الجغراسياسي، وفي التاريخ، إلا عندما تمتنع بوصفها موضوعا للمعرفة، وللوعي-وبالتالي: للمقاومة والتحرير.