ناهض حتّر
خلال فترة عمله في السفارة الامريكية بعمان – مطلع العقد الحالي – أقام الدبلوماسي الامريكي – من اصل كوبي – البرتو فرنانديز، علاقات واسعة طيبة مع الصحافيين الاردنيين. وقد التقيته – بصفته باحثا – عدة مرات في حوارات معمقة.
كان ذلك، بالطبع، قبل الغزو الامريكي للعراق، ومقاطعتي الكاملة لأي امريكي رسمي.
بدا لي فرنانديز، وقتها، أكثر ذكاء من الامريكي التقليدي، وميالا الى العرب، ويظهر، بصفة خاصة، تعاطفه مع الاردن، بل ويميّز نفسه عن السياسة الامريكية الرسمية حيال قضايا البلد. وقد نقد هذه السياسة أمامي في عدة مواضع. وكشف لي، مرة، عن سياسي صاعد باعتباره «رجلنا» أي رجل الامريكيين. وكان يعتبر أن دعم شخص مثله – ليس له وزن اجتماعي سياسي داخلي – هو خطأ فادح.
لقد كونت انطباعا ايجابيا عن فرنانديز، وشعرت بأنه، بالفعل، باحث اكثر منه دبلوماسياً، خصوصا وأن مواقفي كانت حازمة، وقد رفضت دعوات منه لزيارة الولايات المتحدة، استجاب لها الكثيرون. بل انني لمست ان شغفه بمعرفة القضايا الاردنية، حقيقي وشخصي.
تابعت فرنانديز بعد مغادرته عمان، وصعوده السريع في الخارجية الامريكية. وكان أداؤه مقززا من حيث انه يستخدم معرفته باللغة العربية وبالسياسات والتيارات في العالم العربي لتزويق الاكاذيب والجرائم الامريكية في العراق والمنطقة. واعتبرت ان فرنانديز باع نفسه لادارة بوش الصغير التي رأت فيه أداة ملائمة.
من جديد فاجأني فرنانديز باعلانه الجريء، في قناة الجزيرة، بان سياسة الولايات المتحدة في العراق، اتصفت وتتصف «بالغباء والغطرسة». وقد سحب الرجل تصريحاته لاحقا، وربما تكلفه صحوة الضمير القصيرة التي انتابته، مستقبله المهني.
لكن لا يبعد أن يكون فرنانديز مجرد انتهازي قرر القفز من السفينة الغارقة، وانقاذ نفسه، بحثا عن فرصة كبيرة في السياسة الامريكية لما بعد العراق.
في الحالتين، فإن تصريح فرنانديز لا يمكن سحبه لأنه لا يتضمن معلومات يتم تكذيبها، بل تقييما للسياسة الامريكية على مدى حوالي ثلاث سنوات ونصف في العراق. وقد أصاب هذا التصريح الهدف، وكشف عن افكار ومعنويات الامريكيين بشأن العراق، سواء أكان الأمر صحوة ضمير أم انتهازية.
الولايات المتحدة في وضع يائس في العراق، وفي المنطقة. فالمغادرة العاجلة تعني هزيمة صريحة في الشرق الأوسط كلّه. وهي ستخلق وضعا جديدا يقوي أعداء الاستعمار الامريكي في كل البلدان العربية، ويحرج الانظمة «المعتدلة»، ويطلق قوى التحرر الوطني من عقالها.
بالمقابل، فإن الخروج من العراق على أساس تسوية سياسية تحفظ الحد الادنى من المصالح الامريكية في المنطقة، ليس ممكنا – مثلما تقترح لجنة جيمس بيكر- الا بالتفاهم مع سورية وايران، وهذا التفاهم له ثمن باهظ هو التراجع الامريكي في كل الملفات الشرق أوسطية.
ولذلك، فإن الامريكي الذي يفكر، ملياً، في هذه الورطة، سوف يسبُ، عفويا، سياسات ادارة بوش الصغير، المتغطرسة والغبية. وربما كانت هذه هي فلتة لسان فرنانديز.
على كل حال، فلعلها لحظة الحقيقة، تواجه القيادات العربية «المعتدلة»، فالجري وراء السياسات الامريكية أصبح واضحا ان مآله الخسارة المحققة، من دون جدوى.. خصوصا اذا فاز «الديمقراطيون» في الانتخابات النصفية «للكونغرس»، ودخلت السياسة الامريكية في الشلل لمدة سنتين، من خلال التعارض او التعايش الصعب بين الادارة الجمهورية و«الكونغرس الديمقراطي».
لن يعود لدى بوش الصغير ما يقدر على أن يعطيه، بينما سيكون مضطراً الى الأخذ – من دون هوادة- من حلفائه العرب، وهو ما سيضعهم في موضع لا يحسدون عليه.