استراتيجية “التطييف”

ناهض حتّر
كشف تقرير “ميليس” شيئاً واحدا هو النوايا الامريكية العدوانية تجاه سورية. فتقرير اللجنة الدولية المكلفة بالتحقيق في اغتيال رئيس وزراء لبنان الاسبق، رفيق الحريري، لم يتضمن سوى القليل جدا من المعطيات اللازمة للشروع في تحقيق قضائي، بينما احتشدت صفحاته المائة، بالملاحظات التاريخية التي تعود الى الفترة العثمانية، وبالتحليلات الصحافية الهائجة، وتخرصات ما كان يسمى «المعارضة اللبنانية» وأقاويلها المشحونة بالعداء ضد سورية.

والتقرير، بالاساس، مكتوب كأهجية سياسية رديئة ومملوءة بالثرثرة والادعاءات الغامضة لشهود محجوبين، ونتف تمت اعادة بنائها في سياق تأليف «قضية» يمكن للولايات المتحدة ان تستخدمها لغزو سورية، مرورا بمحاصرتها اقتصاديا ودبلوماسيا وضربها في مسلسل مشابه للمسلسل العراقي، ولكنه سيكون اكثر تسارعا. فالمأزق الامريكي في العراق، عسكريا وسياسيا، اصبح خانقا بحيث انه لم يعد بامكان واشنطن سوى الانسحاب .. او القفز الى الامام، عبر توسيع دائرة المشروع الاستعماري الامريكي لكي يشمل، ايضا، سورية. والهدف المركزي المتوخى، هنا، ليس وقف الامدادات السورية للمقاومة العراقية – وهي، على كل حال، ثانوية تماما – ولكن اعادة تركيب حكم الطوائف في الهلال الخصيب: مواصلة «تشييع» العراق مقابل «تسنين»سورية ولبنان. وكذلك، بالطبع، ضرب قوى الاعتراض والمقاومة، ومحاكمة ووأد الاتجاهات القومية العربية، والوطنية العلمانية لحساب الطوائف والاثنيات. وهو ما يتطلب، بالحتم، اسقاط نظام البعث في دمشق ومطاردة وتدمير حلفائه اللبنانيين والفلسطينيين.

ان اخطر ما ورد في تقرير «ميليس»، في رأيي، هو الآتي «1» ما نقله التقرير عن زعامات لبنانية ادعت ان الحريري ابلغها ان الرئيس بشار الاسد قد هدده ب¯ «تكسير لبنان فوق رأس الحريري وجنبلاط» اذا لم يمددا رئاسة اميل لحود. وهذا الادعاء الذي يطاول رأس النظام السوري شخصيا، هو الاساس في اتهام المسؤولين السوريين ب¯ «تضليل التحقيق» لانهم – وعلى رأسهم وزير الخارجية فاروق الشرع – قدموا رواية اخرى لوقائع لقاء آب الشهير بين الاسد والحريري، لم تنكر ان الاول طلب من الثاني التمديد للحود، ولكنها وصفت اللقاء بأنه ودي للغاية نقلاً عن الحريري نفسه. ومن الواضح ان الحريري – على عادة اللبنانيين – قد قدم عدة روايات مختلفة للقائه بالأسد، حسب المستمعين، فما قاله لرئيس الاستخبارات السوري، رستم غزالة، شيئاً؛ وما حدث به وليد جنبلاط، شيئاً آخر؛ وما أسرَّ به لابنه سعد، شيئاً ثالثاً. ولم يلتفت التقرير إلى هذه التناقضات، ولم يدقق في السياقات الممكنة للروايات المختلفة، بما فيها امكانية ان يكون الحريري كاذباً، فما كان يهم التقرير هو وضع رأس النظام السوري وكبار مسؤوليه على المقصلة.

(2) ما ادعاه التقرير من ان التوصية بالتخلص من الحريري صدرت عن تحليل للنائب السابق والاعلامي اللبناني، ورجل سورية، ناصر قنديل، وهي ملاحظة بلهاء، ولكنها ملائمة – مثلها مثل اتهام فرقة الأحباش الاسلامية الموالية لدمشق، بالضلوع في عملية اغتيال الحريري، ومثل سواها من الملاحظات – لنصب محاكم تفتيش ضد اصدقاء سورية في لبنان، واخراس القوى الوطنية والاسلامية عن نصرة دمشق.

(3) اشارة التقرير أن منظمي عملية الاغتيال الغامضين، قد نسقوا مؤامرتهم مع الجبهة الشعبية – القيادة العامة (احمد جبريل).

ولا يتطلب الامر عبقرية، للقول ان الاجهزة الامنية السورية (واللبنانية) لا تحتاج الى كل هؤلاء اذا ما ارادت تدبير عملية اغتيال. ولكن المطلوب هو توسيع دائرة المطاردة، سورياً ولبنانياً وفلسطينياً.

* * *

مرة اخرى، نطالب النظام السوري بتقديم تنازلات جذرية، ولكن ليس للامريكيين وحلفائهم، بل للشعب السوري. فضعف النظام السوري – ومن قبله العراقي – ليس في عزلته عربياً ودولياً ، بل في عزلته عن جماهير شعبه.

Posted in Uncategorized.