أنصاف الحقائق

ناهض حتّر
قبل أن أدلف الى اللقاء مع مصدري في فندق حياة، صادفت مثنى حارث الضاري على البوابة، كان يهم بالمغادرة الى موعد مهم، ولكننا تحدثنا بإيجاز وتفاهم كأخوين، وتضاحكنا حين حذر زميلا مصريا، صحبني، من «السير مع المتطرفين»!

الحقيقة، دائما، متطرفة. لكن التوصل الى تسويات واقعية للمآزق الواقعية، يحتاج، دائما، الى انصاف الحقائق . ويبدو لي ان العراقيين قد وصلوا، فعلاً، سياسيا ونفسيا، الى التعاطي مع انصاف الحقائق في الازمة المركبة التي يعانيها العراق جراء الماضي المرير للاستبداد ، والاحتلال الامريكي، والتدخلات الاقليمية الخطرة، واستيطان الارهاب، والمعتقلات الدموية، وانعدام الامن والخدمات المعيشية- حتى أبسطها- في اغنى بلدان الشرق الاوسط بالموارد.

تدلني غريزتي السياسية على ان هنالك جديدا على الجبهة العراقية. وجئت الى القاهرة – حيث ينعقد مؤتمر الوفاق الوطني- لارى ذلك «الجديد»، وأحدده ليس فقط في المعلومات والاسرار ولكن، ايضا، بحسابات النبض الداخلي والايقاعات النفسية للرجال.

وجدت العديد من الاصدقاء «والخصوم» العراقيين، هذه المرة، اقلّ تشنجا واكثر توترا وغموضا ولطفا. انها، اذن ، اجواء تسوية، لا يتحدث عنها احد في المنابر، ولكنها تنسج خيوطها وسياقاتها.. وهي، الان، اقرب الى شبح اطارده في أبهاء فندق حياة بالقاهرة، حتى انبلاج الفجر.

العراقيون الاتون للمشاركة في «المؤتمر»، يستلذون ليل القاهرة الآمن الصاخب الساحر، ولا ينامون ، غادين او رائحين او جالسين في كولسات لا تنتهي، مشغولين بالتعبير عن انصاف الحقائق أو انهم – على الاقل- يسكتون عن انصافها الاخرى، تدفعهم رغبة عميقة بالخلاص من المأزق المشترك.

قبل انبلاج الفجر بقليل، كان الصديق ظافر العاني- الباحث والمرشح المقرب من المقاومة العراقية في الانتخابات العامة المقبلة، بصحبة شاب من «حزب الدعوة»- اعطاني لنفسه اكثر من اسم قبل ان يستقر على احدها. وبدأ يهاجم «الاردنيين» «المؤيدين للارهاب» شامتا بما حصل في عمان من احداث مأساوية!

احتفظت بالصبر الجميل واستمعت اليه . كان حديثه يفتقر الى المنطق السياسي الا ان مشاعره مجروحة – وقد تفهمت ذلك – هاجم العرب ثم قال انه عربي وانه يفرح عندما يفجر المقاومون دبابة امريكية، لكنه كان متألماً لضحايا الارهاب، و«للعداء» الذي يكنه العالم العربي «للشيعة».

ظافر- الموجوع لاستشهاد شقيقه على ايدي قوات بدر، وابن شقيقه على أيدي الامريكيين- كان متسامحاً وودوداً مع الفتى، ومستعداً لتجاوز الآلام الشخصية. يقول ظافر ان شباب «حزب الدعوة» -تحديدا- واقعون في ازمة اخلاقية وطنية، فهذا الحزب الذي تأسس على ايديولوجية العداء للاستكبار الامريكي، يحكم الان تحت راية هذا الاستكبار بالتحديد. انه وضع مدمر سياسياً ووجدانياً. ومن غير الممكن ان يستمر.

لم أفهم على الفتى العراقي من «حزب الدعوة»، ولم يفهم عليّ. ربما لا يزال الوقت مبكراً جداً، لكننا اصبحنا نتحدث مبتسمين.

نفدت سجائر العاني، وتردد حين اخرجت علبتي لأتركها له. لكن الفتى من «حزب الدعوة» قال له خذها. غداً «تردها» له لقد كانا- في الاخير – عراقيين، يجمعهما ضمير «النحن» وتضامن الاسرة.

ابتسمت.. وفرت من عيني دمعة!

Posted in Uncategorized.