ناهض حتّر
في خطابه السنوي عن حالة «الاتحاد الروسي» أمام البرلمان، شن الرئيس فلاديمير بوتين، هجوماً سياسياً شاملاً على الولايات المتحدة الامريكية، واصفاً اياها «بالذئب». هنا، سوف نتذكر حالاً رئيس فنزويلا، هوغو شافيز، الذي ابتدأ هذه الموجة من النقد العنيف للسياسات الامريكية. لكن، هنالك، بالطبع، فارق أساسي، فما تزال روسيا قادرة على تدمير الكرة الارضية عشر مرات!
سخر بوتين من «الذئب الذي لا يستمع» ويواصل الحديث عن «الديمقراطية» و«حقوق الانسان» او يصمت عنها، في تطابق مع مصالحه الخاصة الأنانية، بينما ينفق الاموال الطائلة لتحويل الولايات المتحدة الى «حصن» وتطوير تكنولوجيا السلاح. وهو «أي بوتين» يرد باعلان الاستراتيجية الروسية الجديدة: الأولوية للقوة. روسيا ستواصل تعزيز قدراتها العسكرية لحماية أمنها القومي، طالما ان «سباق التسلح» لا يزال هو محور السياسة الامريكية.
وضع بوتين، هنا، يده على النقطة الجوهرية في الاستراتيجية الامريكية: وهي الحفاظ على تفوق مطلق في المجال العسكري، بعد ما فقدت أو تكاد، قدرتها على التفوق أو – احياناً – المنافسة في المجالات الأخرى. ولذلك، فان واشنطن – الساعية الى الحفاظ على سيطرتها الدولية بأي ثمن – تمضي قدماً في سباق التسلح، وتعزيز النزعة العسكرية، والحرب. ان «حربجيّة» المحافظين الجدد المنطلقة مع إدارة بوش الصغير منذ العام ،2000 ليست انزلاقاً في طريق خاطىء او تعبيراً عن تطرف مهووس، كلا، انها تعبير عن الأزمة الموضوعية التي تعاني منها السيطرة الامريكية على العالم. فهذه السيطرة لم تعد ممكنة إلا في مجال واحد… هو الحرب العدوانية. وهي، هنا، تواجه تحديين أولهما – عجز العسكرية الامريكية عن مواجهة المقاومات الشعبية – كما هو حادث في العراق – وهو عجز موضوعي ناجم عن عدم توفر العدد الكافي من المشاة في حرب العصابات. وثانيهما نهوض روسيا التي لا تزال، من الناحية العسكرية، قوة كونية. وها هي تمتلك الارادة السياسية، مجدداً، للحفاظ على هذه القوة.
قررت روسيا، إذن، ان تستعيد مكانتها الدولية، من هذا المفصل الأساسيّ، متحدية الاستراتيجية الامريكية في قلبها. ذلك ان الولايات المتحدة، خسرت، منذ التسعينيات، معارك اساسية في المجالات الاقتصادية «بما في ذلك التجارة والتكنولوجيا والطاقة..» بينما لحقت بسياساتها الخارجية، اضرار فادحة جداً، جراء ازدواجية المعايير، والعدوانية، وتجاهل الرأي العام العالمي. السياسة الامريكية تفتقر الى الصدقية والأصدقاء في انحاء العالم كلّه.
وعلاوة على ذلك، فان امريكا مدانة اخلاقياً بجرائم الحرب والتعذيب وتجاهل المشكلات البيئية والاجتماعية والثقافية حول العالم.
في هذا السياق، بالذات، يظهر خطاب بوتين، باعتباره لحظة فارقة في التطور العالمي. فروسيا لن تترك الساحة العسكرية، خلواً، للامريكيين ومن الواضح ان الادارة الروسية قد انجزت الكثير من مهمات التصحيح الداخلي المضاد، من خلال العودة الى بناء القطاع العام، وسيطرة الدولة على القطاعات الرئيسية، واهمها قطاع الطاقة.
ما تفعله روسيا هو العودة الى «رأسمالية الدولة» وهي الخطة الوحيدة ذات الجدوى في انقاذ روسيا من الهلاك في سياسات الخصخصة وهيمنة كبار الرأسماليين وممثلي المصالح الأجنبية على الثروات الروسية.
والعودة الى «رأسمالية الدولة» هي شرط أساسي، ليس فقط من أجل حشد الموارد لتطوير القدرات العسكرية، بل، أيضاً من أجل توفير التمويل للسياسات الاجتماعية – الديمقراطية، والتي من دونها قد تتلاشى الأمة الروسية التي كان احتجاجها على الرأسمالية المتوحشة – وآثارها الاجرامية في تهميش الاغلبية وافقارها وتجويعها – احتجاجاً سلبياً انتحارياً تمثل في التوقف عن الانجاب. وهي نقطة توقف، عندها، بوتين، بقلق بالغ لكنه يعلم ان انقاذ الأمة الروسية لا يحدث بالمواعظ الاخلاقية والقومية، بل بتوفير الشروط الاقتصادية والاجتماعية والثقافية لاعادة الحياة الى روسيا.
وهذه العملية تتطور بتسارع كبير في البلد الذي كان يشكل القوة الدولية المنافسة للولايات المتحدة حتى نهاية الثمانينات. لكن العدو الداخلي المخيف لا يزال يعرقل جهود النهضة. وهذا العدو هو الفساد الذي دعا الرئيس بوتين، مجدداً، الى مجابهته.
ان تعافي روسيا يظهر، على كل حال، في ارقام النمو في اقتصادها البازغ، وفي سلوكها السياسي المناوىء للأمريكيين في مسائل رئيسية «العراق، ايران، فلسطين، كوريا…» واخيراً، في اعلانها توجيه المزيد من الموارد لبناء حصنها العسكري.