ناهض حتّر
لعبت المملكة العربية السعودية، في النصف الاول من الخمسينيات، دورا رئيسيا في اطاحة الحقبة البريطانية في المنطقة. ولم يُسجل ذلك للسعودية في الوعي الشعبي، اولاً: لان ذلك الدور لم تصحبه مداخلة فكرية او تغطية دعائية، بل تم انجازه بوسائل دبلوماسية، وفي الكواليس، وبممارسة النفوذ السياسي والمالي، وثانياً: لان الرياض هي التي كانت عنوان الحقبة التالية، الامريكية.
وحافظ السعوديون، معظم الوقت، مذ ذاك ، على استقلال نسبي في ادارة السياسة الخارجية، وعلى هامش واسع للمناورة، صبغ «الحقبة» بالمقاربة السعودية، الميّالة الى الحكمة والتسويات، وتلافي الصدامات العنيفة، بدبلوماسية هادئة وثقيلة.
وهذا لا يعني ان الرياض لم تدخل في صراعات، واحياناً دامية: في مواجهة الرئيس عبد الناصر، وخصوصا حين اقترب، في النصف الاول من الستينيات من مجال نفوذها المباشر «حرب اليمن» الا ان الفترة من 67 الى 1991 تميزت – وبصورة حاسمة بعد استخدام سلاح النفط وانفجار اسعاره، 1973- بقدرة السعودية على الادارة الفعالة للتناقضات الاقليمية، وفق منظور يعترف «بالحقبة الامريكية» بالطبع، لكنه يمتلك مقاربته الخاصة.
وهذه تراجعت، فقط منذ العدوان الامريكي على العراق 1991 وسنوات الحصار الصعبة وانتهاء بالغزو والاحتلال وتدمير الدولة العراقية في 2003 وما بعدها، وصولا الى المشاركة في «حلف الاعتدال» على حساب المحور التقليدي الثلاثي «مع مصر وسورية». وقد بدا، اعتبارا من تفجيرات نيويورك 2001 وهيمنة المحافظين الجدد على السياسة الامريكية، ان السعودية فقدت قدرتها على المبادرة المستقلة.
غير ان المسألة العراقية التي اخرجت السعودية من موقع ادارة الاقليم، هي نفسها التي اتاحت لها، فرصة الخروج من مأزق الاستلحاق الامريكي. ففي لحظة ما، وعند نقطة ما، اكتشفت الرياض، الحسّاسة لموازين القوى، وللتبدلات التاريخية، ان الحقبة الامريكية تشارف على النهاية. وفي رأيي ان تلك اللحظة هي لحظة التحقق من ان المشروع الامريكي في العراق، قد فشل، واما تلك النقطة، ففي لبنان حيث تقاطعت هزيمة العدوان الاسرائيلي في الصيف الماضي مع قوة الحركة الداخلية المهددة بالتغيير او باندلاع الاقتتال السني – الشيعي على المستوى الاقليمي، وهو ما يشكل تهديدا استراتيجيا للمصالح السعودية.
بدأت الرياض تحركها في تشكيل مقاربة ما بعد الحقبة الامريكية من اقصى الخارطة .. في الصين، ثم انتقلت الى روسيا، في سياق اعادة ترتيب اوراقها الدولية وتعزيز علاقات – كانت ثانوية – وصولا الى فتح خط التفاهم مع ايران، والشروع في بناء علاقات ثنائية – كانت ممنوعة!.
شرعت الدبلوماسية السعودية بالاسهل، حين رتبت المصالحة بين «فتح و «حماس» في اتفاق مكة. وهذا الاتفاق – على محدوديته – نزع فتيل حرب اهلية وشيكة، واسترد ورقة «حماس» من بين ايدي الايرانيين، وصنع انشقاقا داخل التيار الاسلامي الكبير، بين شرعية «حماس»… وشرعية «القاعدة».
وسيكون لهذا الانشقاق – المعنوي – آثاره السياسية باتجاه عزل الاخيرة.
وارجح ان يتكرر ذلك في العراق ايضا، من خلال اعتراف سعودي صريح بالمقاومة العراقية، والضغط باتجاه المصالحة السنية – الشيعية – وتهميش «القاعدة» في بلاد الرافدين «وانصارها».
وربما تكون الرياض قد انجزت بالفعل او تكاد تسوية «لا غالب ولا مغلوب» في لبنان، وعندها سوف تتحقق المصالحة السعودية – السورية، ويتم عزل المتطرفين من امثال سمير جعجع ووليد جنبلاط.
يستعيد السعوديون موقعهم في الاقليم، ببطء ولكن بثبات. وسوف يتعايشون، بالطبع مع اللحظات الاخيرة للنمر الامريكي الجريح، لكنهم يرتبون اوراقهم للمرحلة الجديدة، واحسب ان ذلك سيكون عبر محور ثلاثي جديد يشمل الرياض وطهران ودمشق – ذلك ان مصر فقدت دورها القيادي – وقضايا الاقليم كلها مرتبطة بالمفصل العراقي، وجيران العراق.