الادعاءات!

ناهض حتّر
بماذا نفسر الضرورة الاقتصادية الاردنية؟ نفسرها ببساطة في الحاجة الماسة الى استثمارات جديدة مباشرة في كل الحقول، وخصوصاً تلك التي تفرضها الاولويات التنموية الوطنية.

وتهدف هذه الاستثمارات بالطبع الى زيادة النمو الاقتصادي لاستيعاب النمو السكاني والتعامل الكفؤ مع اعباء المديونية، وزيادة فرص العمل ومداخيل الخزينة لتحسين الخدمات العامة، الا انها ايضا – وفي الاساس – تهدف الى بناء هيكل اقتصادي متجانس عفويا من الاستثمارات القادرة على تحقيق قدر اعلى من التفاعل الاقتصادي الوطني، وبالتالي التفاعل الايجابي مع السوق العالمية.

ولكن هل هناك ضمانة تقول ان القطاع الخاص – المحلي او الاجنبي – سوف يستثمر بالكم الضروري، وفي الاتجاهات المطلوبة لتحقيق الاهداف السابقة؟ ان الارقام – في هذا السياق – تشير الى ان الاستثمارات الاردنية الكبيرة، في اغلبها مهاجرة، وهي تعمل في المضاربات بالاسواق المالية العالمية، بحثاً عن الربح السريع الطيار، وهذه هي بالذات عقلية صياد الفرص والارباح السريعة، والذي لا يرى نفسه في اطار المشروع الوطني، وليس لديه الحافز الذاتي لتحمل المسؤوليات الوطنية، التي تحرك غيره من البرجوازيين في دول العالم الاخرى.

اما بالنسبة للرأسمال الاجنبي، فهو – بشكل غريزي – سوف يبحث عن الفرص الاكثر ربحية في الاردن «قطاع الاتصالات، العقارات، الاسهم» ويستثمر في الحدود والاتجاهات التي يراها مناسبة، ولكنه لن يستجيب للاولويات الوطنية التي لا تتوافق مع معاييره الربحية.

هنا يبرز الدور الاقتصادي – الاجتماعي للدولة، بصفته ضرورة تنموية لا غنى عنها، فقوة الدولة المالية والسياسية، هي وحدها المتحررة من معايير الربحية، ومن الجبن الرأسمالي ، ومن الخوف من التطورات السياسية، وبالتالي يمكن تحشيد تلك القوة في الاستثمار او قيادة الاستثمار، بالاحجام، وفي القطاعات وحسب الاولويات التي تفرضها الضرورة الاقتصادية – الاجتماعية الوطنية العامة.

ان التباس علاقة الرأسمالي الاردني مع الدولة يكشف عن جزء كبير من رزايا وعيوب برنامج التحولات الاقتصادية، ويظهر هذا الرأسمالي على حقيقته وفهمه لوظيفته الاساسية في المجتمع وموقعه في بنية الدولة. فهو، لا يريد الاستثمار في الاردن الا بالكمية والنوعية الملائمتين لاحتياجات رأسماله، وليس لاحتياجات الاقتصاد الوطني، ولم تجدِ معه نفعاً النداءات العاطفية الحارة، لانه يفتقر اساساً للحساسية الوطنية والاجتماعية، ويصنف نفسه خارج المشروع الوطني، ولأنه ايضاً لا يشكل طبقة متجانسة سياسياً ومرتبطة عضوياً بتطوير الدولة الاردنية، بحيث يبحث بالتالي عن مستقبله الدائم في هذه الدولة لا في داخلها.

فرأس المال الاردني – باستثناءات معدودة – جماع اشتات بلا جذور ولا هوية، طيار، لا من حيث استثماراته، ولكن من حيث وجوده الفيزيائي اليوم في الاردن، وغداً لِمَ لا» في مدغشقر! وهذا يكشف عن معضلة هوية قبل اي شيء، «فعلاقة الرأسمال الاردني» مع الدولة الاردنية هي علاقة عداء وليس علاقة استثمار اقتصادي في البنى التحتية. علاقة في المطاعم والمقاهي والفنادق والمولات، لا في تطوير المرافق السياحية، وفي مزارع التصدير لا في الزراعة نفسها، وفي الوكالات التجارية لا في الصناعة. اللهم الا اذا كانت هامشية استهلاكية، تحقق الربح السريع.

والخلاصة، ان الخطة الكمبرادورية في الاردن ليس لها مستقبل. اذ لا يمكن في بلد مثل الاردن الاستغناء عن الدور الاقتصادي – الاجتماعي للدولة، فهذا الدور الذي تضطلع به الدولة عن طريق القطاع العام والتشريعات والتأمينات الاجتماعية والتعليم.. الخ، يعمل بصفته عقلاً للاقتصاد الرأسمالي غير العقلاني، من خلال اعادة توزيع الثروة اجتماعياً، وبالتالي تجديد قدرات الفئات الاجتماعية على التفاعل مع الاقتصاد الوطني، من خلال تفعيل الاستثمارات الصغيرة والمتوسطة، وزيادة القدرة الشرائية للجمهور «زيادة الطلب الكلي»، وهو ما يحفز بدوره الاستثمارات المحلية الكبيرة والاجنبية، ويخلق دورة اقتصادية قابلة للحياة.

ان نجاحات الاقتصاد الكلي الاردني في ظل الخطة المعمول بها حالياً، اي في حالة الغاء دور الدولة، لن تحقق على الاطلاق فخدمة المديونية «المتصاعدة» تحول دون ذلك. وهذه هي الحلقة المفقودة التي تعوق ترجمة تلك النجاحات في حياة الناس ومستوى معيشتهم. وحينما يتم تخصيص حوالي ربع الموازنة العامة لخدمة المديونية، اقساطاً وفوائد، فلن يكون بمقدور الحكومة المركزية الوفاء بالتزاماتها حيال الدائنين، وليس لتحريك الاقتصاد الجزئي. وهو ما ينطبق، ايضاً، على برنامج الخصخصة الهادف في احد مستوياته الرئيسة الى توفير المال اللازم للوفاء بتلك الالتزامات، عن طريق شراء الديون، او مبادلة الموجودات الوطنية بها.

ويتبع ذلك استحقاقات اخرى تتمثل بالالتزام السياسي الصارم بأيديولوجية الخصخصة الشاملة، وهو التزام يشل قدرة الدولة – من حيث المبدأ – على التدخل الاقتصادي – الاجتماعي عن طريق تمويل استثمارات جديدة مباشرة. والخصخصة في الاردن – كما سلف – ليس عملية فنية حتى يمكن ادراجها ضمن معادلة «خصخصة = تعميم = خصخصة»، ولكنها في الحقيقة اصبحت في عقل النخب الحاكمة الجديدة عبارة عن ايديولوجية تقوم على الغاء اي دور للدولة اقتصادياً كان او اجتماعياً وبصورة نهائية.

وينظر انصار المدرسة الكمبرادورية الى «الخصخصة العقائدية» الراغبة في تصفية دور الدولة على انها هي نفسها «الخصخصة الفنية» باعتبارها عملية اجرائية محايدة تقتضيها الضرورات على مستوى المؤسسات او اداراتها.

# # # #

اثبتت التوجهات التي حكمت مسيرة الحكومات الاردنية منذ ما يزيد عن عقد، دون ادنى لبس، ان الخصخصة الشاملة «وطموح اللحاق بركب السوق الرأسمالية العالمية» اصبحت عقيدة رسمية للدولة الاردنية، بحيث اصبح كل تفكير اقتصادي خارجها ممنوعاً! وهذا يكشف في الواقع عن حقيقة ثابتة. وهي ان هذه التحولات اصبحت ترتبط بعاملين اثنين، الاول يتعلق مباشرة بالمصالح العامة للفئات البرجوازية ضد المصالح الوطنية والشعبية، والثاني انها تتفق مع املاءات ورغبات صندوق النقد الدولي الذي يتلاعب بقضية الديون الاردنية المرهقة للوطن والشعب.

والسؤال: هل يتسق منطق الخصخصة، مع جوهر ما سمي ب¯ «برنامج التحولات الاقتصادية – الاجتماعية»، المستند الى فرضية تحقيق انتعاش اقتصادي سريع؟

ولكن الاهم قبل كل هذا، هو: لمصلحة من يكون ذلك؟ وهل يكون على حساب المالية العامة؟ ثم الا يمثل ذلك نوعاً من الاستثمار الكمبرادوري في وراثة القطاع العام «اموال التخاصية» وفي استخدام سلطة الدولة في الاقتراض لمصلحة فئات برجوازية، على حساب انحدار جديد محتم في مستوى معيشة الاغلبية؟

اما بالنسبة للتحولات الاقتصادية التي ترتبط بصندوق النقد الدولي، فقد ترجمتها حكومة ابو الراغب، بحيث اصبحت تقوم على ما يلي:

(1) الانجاز الفوري لما تبقى من عمليات الخصخصة، وصولاً الى تفكيك كامل للقطاع العام.

ويشمل ذلك بالطبع، تقليصا ضروريا للوزارات والادارات والبيروقراطية الحكومية.

(2) استكمال الهيكل القانوني الذي يوفر هيمنة مطلقة لمصالح القطاع الخاص المحلي والاجنبي.

(3) توجيه الاموال الناجمة عن الخصخصة لتدريب واعادة تدريب، وتأهيل القوى العاملة، لتوفير مهارات العمل الرخيص للمستثمرين المحليين والاجانب.

(4) تعميم التكنولوجيا المعلوماتية «لتطوير البيئة الاستثمارية»

(5) توفير الكتلة الحرجة من رأس المال لجذب المستثمرين نحو المشاركة في مشاريع تحتية.

(6) السماح بالتوسيع الجزئي في الانفاق الحكومي على خطط تحسين معيشة الفقراء، حفاظاً على درجة مقبولة من السلم الاجتماعي.

(7) استخدام اموال التخاصية لخدمة القطاع الخاص، من حيث تمويل استثماراته، وتوفير التقانة والعمالة اللازمتين لهذه الاستثمارات.

والحقيقة التي تكشف عقم التوجهات الليبرالية، هي ان اموال التخاصية التي القيت بيد النخبة الحاكمة قد تم تبديدها بالفعل في غير صالح المجتمع الاردني، إما على الانفاق الجاري، او في معالجة المديونية هامشياً، بما في ذلك الاستثمار في سندات امريكية، بينما يمكن ان تشكل هذه الاموال الكتلة الحرجة لرأسمال هيئة استثمار وطني، تستطيع ان تحشد، ايضاً الاموال الفائضة لدى البنوك، واموال الصناديق المهنية، واموال الضمان الاجتماعي، بما يشكل في النهاية قوة رأسمالية ضخمة، قادرة على تنفيذ مشاريع استثمارية وطنية كبرى، حسب الاولويات والضرورات، وفي اطار ادارة مختلطة، قائمة على اسس ديمقراطية واضحة وصريحة.

الا ان خطة التحولات التي تجري الآن، وبوتيرة متصاعدة تحت اشراف الفئات الكمبرادورية تستلزم البيع العاجل لما تبقى من المؤسسات الاقتصادية العامة، والاستخدام الحر لاموال الخصخصة، والاستغناء عن خدمة الالاف من الكوادر الحكومية، وشطب نظام التقاعد والحقوق التقاعدية، والتوسع في استخدام القوانين المفصلة لخدمة الفئات الكمبرادورية. وهذا في مجمله يتطلب تغييب المؤسسات التشريعية والرقابية، وتقليص هامش الحريات، بل والانقلاب على الاسس الدستورية والقانونية للدولة ايضاً. مع الحفاظ بالطبع، على تطوير اشكال «ديمقراطية» زائفة.

Posted in Uncategorized.