ناهض حتّر
هناك فارق نوعي بين تكوين “السياسي” وتكوين “رجل الاعمال”. مدار الاهتمام الرئيسي للأول هو الشأن العام، من حيث هو حقل نشاطه وعلاقاته وانجازاته وقيمته. بينما ينصب اهتمام الثاني على البزنس والتوسع والارباح.
لا يوجد، بالطبع، جدار فاصل بين الانموذجين. فهناك سياسيون منزاحون الى البزنس، وهناك رجال اعمال منزاحون الى السياسة. وقد ينزلق رجل السياسة الى الفساد بينما يحافظ رجل الاعمال على نزاهته حينما يتولى منصباً سياسياً. الا ان هذه مظاهر هامشية وشخصية، وتتعلق بالاخلاق الفردية لا بالتكوين الاساسي للشخصية الاجتماعية. فالميل العام عند السياسيين – حتى الفاسدين منهم – يختلف، نوعياً، عن الميل الخاص عند رجال الاعمال – حتى الشرفاء منهم – وهذا يتعلق بالاولويات والمرجعيات لا بالافراد. فاولوية السياسي هي تحسين شروط بقائه في النادي السياسي، ومرجعيته هي القبول العام به، اي انها، في الاخير، مرجعية اجتماعية. في حين ان اولوية رجل الاعمال هي البزنس. وهو يحظى، هنا، بحرية الحركة وهامش كبير للمناورة الاجتماعية. انه، في الاخير، غير معني بالقبول العام، بقدر ما هو معني بالنجاح المالي.
فساد السياسي « التقليدي» له سقف تأمين الحياة الشخصية، لكن فساد السياسي، رجل الاعمال، فليس له سقف، الاول معني بالمصالح الجماعية للنخبة السياسية وعلاقتها بالمجتمع، بينما الثاني معني بالمصالح الخاصة لفئته او ربما شركاته.
وقد اختلطت المعايير في العقد الاخير، بين صورة السياسي وصورة رجل الاعمال، بحيث اصبح التمييز بين الصورتين متعلقاً بالافراد .. واخلاقياتهم. ومع ذلك نبقى، في الاخير، امام فارق نوعي، لا بد من توضيحه وتعيينه والحيلولة دون ذوبانه. فأسوأ ما تُبتلى به الدول غياب الحد الفاصل بين السياسة والتجارة.
وهناك قصص كثيرة متداولة – وبعضها مفصل وبالارقام – عن صفقات خاصة اجراها رجال اعمال سياسيون، مستفيدين من سلطاتهم الحكومية وقد تمكنت احدى الصحف الاسبوعية، مؤخراً، من اكتشاف سجلات تجارية لاربعة وزراء عاملين، يمارسون التجارة في قطاعات قريبة من اختصاصات وزاراتهم وثلاثة من هؤلاء جاؤوا الى الوزارة وهم رجال اعمال اصلاً، ورابعهم تحول الى رجل اعمال وهو في منصبه ولدى التدقيق، فان النشاطات الكبرى لرجال الاعمال -المسؤولين، لن تجدها مسجلة باسمائهم في وزارة الصناعة والتجارة. وربما لن تجدها مسجلة ابداً. ولكنها تظهر في الموجودات الشخصية الخيالية – بالنسبة لأي موظف عام – في قصور مشيدة على الملأ وسيارات تمخر الشوارع، وارصدة بنكيّة محلية وخارجية.
وكل هذه النشاطات، المسجلة وغير المسجلة، مخالفة للقانون، صراحة، وقد كنت انتظر تكذيباً رسمياً وتوضيحات حول المعلومات الموثقة التي نشرتها الزميلة الاسبوعية. وقد تم تجاهل القضية حتى الآن. والارجح انه سيتم تجاهلها كالعادة.
البينات المقدمة والمنشورة، تلزم الجهات المعنية، بالتحقيق لانها تشير الى وقائع تخرق، من دن لبس، المادة 6 من قانون محاكمة الوزراء. ولكننا، مرة اخرى، لن نجد سوى الصمت.
رائحة الفساد تزكم الانوف. وسوف تخرج من كل مجلس بقصة فساد كبيرة او صغيرة. وقد يكون قسم من هذه القصص كيدياً، لكن قسماً منها متداول في روايات كاملة التفاصيل – بالارقام والاسماء والمعطيات – كما ان قسماً اخر منها تراه العين.
هناك، بالطبع، اجراءات قانونية وعلنية لا بد منها من اجل اظهار الحقائق، ومحاسبة الفاسدين، وتبرئة المظلومين، وانقاذ صورة البلد والنظام السياسي من التآكل. غير ان اصل المشكلة يظل في اختلاط السياسة بالتجارة.
ضمن هذا الاختلاط بالذات ينبع الفساد واذا كان صحيحاً انك لن تعدم بين السياسيين المحترفين، فاسدين، فان هذا الفساد سيظل محدوداً من حيث الكم والنوع، ويمكن احتماله اقتصادياً، ومحاسبته نيابياً وقانونياً.