ناهض حتّر
في بلدنا، توجد قوتان، فقط، تملكان برنامجا اقتصاديا- اجتماعيا، هما الليبرالية الجديدة- التي تمسك بمفاصل القرار- واليسار- المغَّيب كلياً- وفي المستقبل، سوف يتمحور الصراع السياسي بين هاتين القوتين، مثل ما حدث في امريكا اللاتينية.
القوى الأخرى ذات حضور اجتماعي وجماهيري، ولكنها لا تملك برامج اقتصادية اجتماعية خاصة: الوطنيون والقوميون، يميلون الى اليسار، والاسلاميون يميلون الى الليبراليين الجدد.
الازمة السياسية الاردنية المزمنة- مثلما حللناها غير مرة- تتمثل في عجز الليبرالية الجديدة عن الممارسة المباشرة للحكم وإدارة العملية السياسية، وهي تفعل ذلك من خلال وسائط بيروقراطية وسطية وبتحالفات مع قوميين واسلاميين.
اليسار الاردني- الملتزم بالخط- من جهته لا يحظى بأي قدر من التمثيل السياسي او المشاركة في صنع القرار على اي مستوى، لا في الحكومة ولا في مجلس الامة، ولا في المناصب العليا ولا في النقابات المهنية..الخ.
وليس ذلك، لان اليسار قوة هامشية في الاردن. كلا: انه القوة الرئيسية الثانية من حيث آفاق برنامجه الاقتصادي- الاجتماعي، وكذلك من حيث فعاليته وحضوره الديناميكي في تشكيل الرأي العام، وتكوين النخب. وهو موجود في كل مكان، ويتمتع بشبكات مرنة قابلة للتوسع، وقادرة على المبادرة، ويظهر ذلك، بوضوح، في التحركات الاجتماعية، حين يبرز الدور القيادي لليساريين الذين تتوجه إليهم القوى الاجتماعية الشعبية والديمقراطية في المفاصل الحساسة بالنظر الى قدراتهم الفكرية وجرأتهم واستعدادهم النضالي. لكن الحزب اليساري هو «حزب جنرالات» -يلتحق بهم «الجنود» في الازمات المفصلية- اما في الحياة اليومية، فإنه يصعب على المواطن العادي ان يتحمل اعباء الانتماء الى اليسار. وهو ما يتطلب الكثير من الجهود الثقافية والسياسية والتضحيات، مقابل القليل من المكاسب – المعنوية.
اليسار الاردني ليس هامشيا، ولكنه غير مُمثَّل، للاسباب التالية:
اولاً، بسبب النظام الانتخابي الاكثري في الانتخابات العامة، البلدية والنقابية، وهو نظام لا يسمح بفوز الجنرالات المعارضين جذريا، وحزبهم الذي سوف يضمن – بالتأكيد – حصته في اي انتخابات تتم على اسس نسبية. ولعله آن الاوان ان يتحمل اليساريون المسؤولية ازاء تيارهم وازاء الوطن، بالاصرار على تعديل الانظمة الانتخابية بما يكفل تمثيلهم بصورة واقعية.
ثانيا: بسبب السياسة الرسمية المزدوجة للبيرقراطيين والامنيين الذين ما زالوا يتبنون نهج الحرب الباردة ازاء اليسار، ولليبراليين الجدد الذين يعتبرون اليسار الملتزم عدوهم الاول، بينما لا يجدون ان هناك خلافات جوهرية مع القوى الاخرى، القومية والاسلامية.
ثالثا: بسبب ان اليساريين انفسهم ما زالوا ينظرون الى المطالبة بحصتهم في التمثيل والقرار، من وجهة نظر اخلاقية لا سياسية، فيعتبرونها – كخط – سقوطاً لافراد منهم يذهبون الى المعسكر الآخر. وهذا صحيح، عندما يتعلق الامر بالخيارات الفردية، لا السياسية.
ان التراجع عن الاستراتيجية الثورية، يتطلب تصميم وتنفيذ استراتيجية الاندماج – وليس الالتحاق – بالعملية السياسية القائمة، من موقع مستقل، وعلى اساس حزبي، وفي سياق شعار حكومة توافق وطني، اصبحت، اليوم، ضرورة استراتيجية للدولة الاردنية.
وانا لا اتحدث عن وزراء يساريين ملتحقين، بل عن وزارات يمكن – بل لا بد من اجل مصالح الدولة والمجتمع – تطبيق برامج يسارية فيها، مثل وزارات الصحة، التنمية الاجتماعية، البلديات، العمل، الثقافة، ومن الممكن ان تعمل هذه الوزارات ببرامج يسارية لمصلحة الدولة والتوازن الاجتماعي- السياسي، من دون التعارض مع السياسات الخارجية او حتى السياسات الاقتصادية، من دون وقف السجال السياسي حولها.
ومن غير الممكن ان تكون هذه «صفقة» بين اليساريين والليبراليين الجدد، بل جزءاً من تفاهم وطني على حكومة توافق تمثل جميع القوى الفاعلة في البلاد، وتنهي التفرد الليبرالي الجديد بالقرار في كل مكان.
وفي سياقات تصحيح الانظمة الانتخابية – في كل المواقع – والتفاهم على حكومة توافق وطني، سوف يتجه اليساريون الى تفاهم برامجي وتنظيمي. وهذه، على كل حال، لم تعد مهمة يسارية .. بل مهمة وطنية.
اليسار هو القوة الوازنة تجاه الليبرالية والسلفية معا. ويمكن ان يشكل مع الوسطيين والقوميين، كتلة اجتماعية – سياسية، تعيد تأسيس الدولة الاردنية على اسس ديمقراطية واجتماعية في اطار الحفاظ على الكيان الوطني وعناصره التكوينية، وتتصدى، بحزم، للاستقواء الليبرالي الجديد – المدعوم خارجيا – والسلفي الشعبوي. بل ان اعادة ترتيب صفوف القوى الاجتماعية الوطنية – اليسارية، سوف يفتح الباب امام اندماج فريق من الاسلاميين وآخر من الليبراليين، في كتلة التغيير التاريخي المقترحة -الضرورة.
ولعل، في نشوء هذه الكتلة، ما يسمح بالتوصل الى حلول خلاقة لمشكلات المواطنة، والتحديث، والدور الاقليمي للاردن.
المطالب ازاء القوى الاجتماعية الاخرى، واضحة فيما سبق، لكن يبقى النداء لليساريين – وهو جوهر هذه الاطروحة – هو انه آن الاوان لكي يتصرفوا كـ «رجال دولة» و«حكومة ظل» لا كقديسين خارج اللعبة او آثمين داخلها