ناهض حتّر
من تقاليد الحكومات الاردنية، انها تبرر الهوّة بين مواقفها ومواقف الرأي العام، بالقول انها تستخدم «العقل» وليس «العواطف» في تحديد سياساتها التي تستهدف تحقيق «المصالح» الاردنية.
الغريب ان الثقافة الحكومية الاردنية لا تبذل ايّ جهد في تطوير خطابها، بل ان ما كان يُقال مداورة في لغة دبلوماسية، قاله رئيس الوزراء الحالي د. معروف البخيت، في صيغته الاولية الخام. وهو ما اثار غضب النائب عبدالكريم الدغمي وغضبي وغضب الاردنيين.
فالمعنى الحرفي لكلام د. البخيت هو الاتي: ان الحكومة هي، وحدها، من يحتكر العقل والعقلانية والحكمة والشعور بالمسؤولية ازاء مصالح الاردن.
وهكذا، يمكننا ان نستنتج ببساطة، انه لا توجد شرعية ولا ضرورة لممارسة العمل الحكومي والسياسي في البلاد، ولا حاجة للبرلمان والاحزاب والصحافة ومراكز البحث والباحثين والمثقفين والجمعيات والهيئات المدنية.. وبالعكس، فإن «المصالح» الاردنية، تقتضي السكوت والصمت، والرأي الآخر – غير الحكومي – هو بلا معنى لانه غير عقلاني، وغير جدي لانه عاطفي. فالقضية، اذا، ليست خلافا في المواقف، خاضعا للحوار والتفاهم والتسوية او الصراع. كلا. انها قضية الاختلاف النوعي بين «العقل» الحكوميّ و«العاطفة» الشعبيّة. وقد يسمح «العقل» ل¯ «العاطفة» بالتعبير عن نفسها، ولكنه لا يأخذها على محمل الجدّ!
***
نحن نعرف، بالطبع، ان الحكومة الاردنية، مقيدة بالتزامات نحو «الاصدقاء» الامريكيين. وهي ترى ان الخضوع لهذه الالتزامات يساوي «العقل» و«الحكمة» ويحقق «المصالح»!
وهنا، ربما يتسع صدر د. البخيت، لهذه الملاحظات «العاطفية»:
اولا- ان عقلانية الادارة السياسيّة، تتطلب الموازنة الحساسة للغاية بين الالتزامات الخارجية والمصالح التكتيكية، وبين السيادة الوطنية والمصالح الاستراتيجية، وهو ما يعني ابداع سياسات مستقلة، تأخذ بالاعتبار جملة المعطيات والقوى والمتغيرات في الحاضر واحتمالات المستقبل. وغير هذه الحالة، يصبح بامكاننا ان نتفهم، بالطبع، مراعاة الضغوط الخارجية، لكن عندما تصبح هذه الضغوط هي العامل الحاسم يمكننا، عندها، عما بقي لدينا، جميعا، من حرية امكانية استخدام العقل في السياسة.
ثانيا- تنشغل الحكومات، الديمقراطية والاستبدادية، بالسعي الدؤوب، الفعلي او الديماغوجي، لردم الهوة- ولو جزئيا- بين سياساتها وبين اتجاهات الرأي العام المحلي، وتحاول ان تكسب ثقته. وهي ضرورة اساسية من ضرورات الحكم والتسيير والادارة.
ثالثا- لقد اظهرت التطورات المتلاحقة في كل المجالات وعلى كل الجبهات، ان اتجاهات الرأي العام الاردني و «عواطفه»، كانت اكثر صوابية وتعبيرا عن المصالح الاستراتيجية الاردنية، من السياسات الحكومية ولا يتسع المجال للامثلة، لكننا، فقط، نورد ثلاثا منها: هل أدت معاهدة وادي عربة الى السلام في فلسطين وتلافي خطر الوطن البديل؟ أم العكس؟ وهل أدت سياسات الخصخصة وبرامج الليبرالية الجديدة الى تحسين مستوى معيشة الاردنيين أم أنها قادت المزيد منهم الى الفقر والتهميش؟ وهل ادى التأييد الحكومي للمشروع الامريكي في العراق الى تعزيز المصالح الاردنية في العراق .. أم العكس؟
رابعا- ليس صحيحا، البتة ان السياسات الحكومية الاردنية، ليست منحازة لأي طرف عراقي، بل هي منحازة في العمق، الى السياسات الامريكية المسؤولة عن تحطيم العراق، وتمزيق وحدته الاجتماعية – السياسية .. بل ظهر، مؤخرا، ان حكومة الدكتور البخيت، منحازة، بالذات، الى ادارة بوش – تشيني، بحيث انها تجاهلت، كليا التوصيات الانتقادية للجنة بيكر – هاملتون، وانا لا امتدح هذه «التوصيات»، لكنني اشير فقط، الى انها تمثل مقاربة امريكية معارضة لسياسات بوش الصغير. وهذا هو السرّ في انها لم تدخل في «عقل» الحكومة الاردنية.
خامسا- المصالح الاردنية الاستراتيجية في العراق، تتطلب بالفعل، «عدم الانحياز» واطلاق مبادرة لانهاء الاحتلال والمصالحة الوطنية على اساس الاستغلال ونبذ العملية السياسية الطائفية الاحتلالية.