ناهض حتّر
يمكن للمراقب المتعجل ان ينظر الى اندلاع اعمال المقاومة المسلحة النوعية في البصرة ومناطق جنوب ووسط العراق -ذات الاغلبية الشيعية- بانه مجرد مظهر للصراع الايراني الأمريكي. فكأنما ايران ارادت أن تظهر لواشنطن ولندن أنها تستطيع ايذاء قوات الاحتلال -شبه الآمنة- في «مناطق نفوذها».
ان العمليات المسلحة ضد المحتلين في الديوانية والناصرية وبابل، تتكثف منذ اسابيع، ويجري التعتيم الإعلامي على مثابرتها وحجمها، لكن المواجهات المسلحة الدامية في البصرة، امس الاول، واحراق ثلاث آليات واسقاط مروحية تابعة لقوات الاحتلال البريطاني، وضعت تطور العمل المقاوم في الجنوب ذي الاغلبية الشيعية- في صدارة المشهد العراقي.
فهل هي مناورة ايرانية؟
ان هذا السؤال نفسه، يضمر استهانة بقسم كبير عزيز من الشعب العراقي، ووطنيته، واستعداده للقتال دفاعاً عن حرية العراق.
ربما يكون هناك، بالطبع، تسهيلات ايرانية، وكذلك ضغوط من طهران على المليشيات الطائفية المتعاونة مع الاحتلال للتراجع عن دورها الأمني الخاص في منع اهالي المناطق الشيعية من الانتفاضة المسلحة والنشاط العسكري المقاوم، لكن كل ذلك يأتي على هامش تطور اجتماعي- سياسي داخلي بدأ يفرض نفسه في صورة اندلاع بشائر الثورة في الجنوب. وذلك في ضوء المعطيات التالية:
أولاً- تبدد المخاوف من عودة النظام السابق الذي أصبح في ذمة التاريخ؛
ثانياً- تبدد الأوهام حول «الديمقراطية» التي ديست بالاقدام لصالح دكتاتوريات المليشيات الطائفية التي تمارس ابشع انواع الاضطهاد في مناطق الشيعة بالذات.
ثالثا- تبدد الأوهام حول امكانية تحسين مستوى الحياة وحل المشاكل المعيشية التي تزداد تفاقماً بسبب الفساد والعجز وانهيار البنى التحتية وتركز البطالة والإفقار والتجويع.
رابعاً- تبدد الأوهام حول امكانية تحقيق الاستقلال العراقي عبر «العملية السياسية الامريكية» التي انتهت الى المربع الاول في مشاورات حكومية تشبه مشاورات تشكيل «مجلس الحكم» التابع لبريمر.
خامساً- انكسار الخوف والخنوع التقليديين لمناطق كانت محط قمع كثيف ولا عقلاني من قبل النظام السابق.
سادساً- الادراك المتنامي بأن هزيمة التكفيريين تمر عبر هزيمة المحتلين.
لقد بدأت عجلة المقاومة في الجنوب والفرات الاوسط، تدور، ولن يوقفها – بعد الآن- شيء.. حتى القرار الايراني – المليشياوي، فعندما يخرج مارد «ثورة العشرين» من القمقم، لن يكون بامكان «الاجهزة» ان تستعيده اليه.
واللحظة الحاسمة في كل ذلك ان العقل الجمعي في «المناطق الشيعية» ادرك، الآن، أن شرعية اقامة «الحكم الراشد» في العراق الموحد، لا يمكن ان تأتي الا بمقاومة المحتلين. فمن يقاتل الاحتلال ويدحره، هو، فقط، من سيكون له القرار في عراق المستقبل. ولم يكن ممكناً، بعد كل ما شهده المشروع الأمريكي – الطائفي، من اخفاقات جسيمة في العراق، ان تظل «الاغلبية» الشيعية تتصرف مثل الاقليات، سواء ألجهة التعاون مع المشروع الاستعماري، ام لجهة العجز عن تقديم بديل وطني للدولة العراقية الجديدة، وهو عجز «مستمد من التحكم الايراني» وضع الاسلام السياسي الشيعي في العراق، في موضع الانهزامية والتقسيم والانعزالية.
هذه مرحلة انتهت او تكاد. ولن تظل المحافظات الغربية – السنية- وحدها، بعد الآن، في ميدان القتال ضد الاحتلال، بل سيهب العراق كله للجهاد، وهذه العملية – الموضوعية- بحدّ ذاتها سوف تضعف الطائفية والطائفيين، وتعزلهم سياسياً، وتسقط حججهم «الفقهية» في نار المقاومة الوطنية الشاملة.
اندلاع المقاومة في الفرات الاوسط والجنوب، اطلق، ايضاً، رصاصة الرحمة على «العملية السياسية» الامريكية الجارية، ووضع الهيئات السياسية المشكلة والجاري تشكيلها على مفترق طرق، فإما التجاوب مع الانتشار الوطني للمقاومة- ومطلبها الاساس جلاء الاحتلال- او الانحلال.
المقاومة، اذن، في كل انحاء العراق العربي. وهذا يعني انكفاء المشروع الانفصالي الكردي، وحماية بغداد من مشروع الذبح الذي يحضره بيان جبرصولاغ «لإعادة احتلال بغداد» «وتطهيرها» طائفياً «من السنة» وسياسياً «من المقاومة».
***
لقد اسقطت التطورات العراقية، عبر السنوات الثلاث الماضية من الاحتلال، كل مشاريع ابتلاع العراق من قبل القوى الدولية، او الاقليمية. والآن، فان بشائر اتحاد العرب العراقيين سنة وشيعة، في الكفاح المسلح ضد المحتلين، يؤذن برحيله سريعاً. ربما بأسرع مما يعتقد المتفائلون.