ناهض حتّر
أسوأ برامج الليبرالية الجديدة، وأخطرها، وأكثرها ضرراً هي تلك التي في حقل الطبابة. فنحن، هنا، امام غول الخصخصة يهدد واحداً من أهم الانجازات الوطنية، أي القطاع العام الطبي، وبالتالي صحة وحياة الملايين من أبناء الشعب، الذي يزدادون فقراً.
وأحد هذه البرامج – قيد الاطلاق – اتفاقية التأمين الصحي بين وزارة الصحة وجمعية اصحاب المستشفيات الخاصة، وظاهر هذه الاتفاقية برّاق.. فبموجبها سوف يتمكن المؤمنون (بفتح الميم الثانية) لدى وزارة الصحة، من مراجعة المستشفيات الخاصة – ضمن الاتفاقيات – مباشرة، والمعالجة فيها لقاء قيامهم بتسديد 30 بالمئة من قيمة الفاتورة.
لكن جوهر الاتفاقية وآلياتها ومضمونها.. في غاية الخطورة على العدالة.. وأموال المؤمنين.. والقطاع العام الصحي.
التأمين الصحي الحكومي – مثلما هو معروف – على ثلاث درجات، اولى وثانية وثالثة. وبالنظر الى قدرة المؤمنين من الدرجة الاولى على تسديد ال¯ 30 بالمئة الاضافية او نفوذهم في شطبها ودمجها في تفاصيل الفواتير المقدمة الى وزارة الصحة، فإنه من المنتظر أن يستنزف هؤلاء المؤمنون في الدرجة الاولى، القسم الأساسي من أموال التأمين التي يتم اقتطاعها من مؤمنين الدرجة الثانية والثالثة.
ولا توجد، من جهة اخرى، آليات مضبوطة او كادرات مدربة كافية لدى الوزارة لفحص مصداقية الفواتير المقدمة من المستشفيات الخاصة الى الوزارة او الرقابة على حُسن تنفيذ الاتفاقية. وهذا معناه خلق مجالات جديدة للفساد الاداري والمالي.
لكن الأخطر هو تأثير هذه الاتفاقية على مستوى وكفاءة وسمعة وتمويل المستشفيات الحكومية. بل ان مجرد التوقيع على هذه «الاتفاقية» هو اقرار بفشل تلك المستشفيات والتسليم بعدم امكانية تطويرها.
وبما ان المستشفيات الخاصة سوف تستنزف المزيد والمزيد من أموال التأمين الصحي الحكومي، فلسوف تكون أقدر على تحسين كادراتها، واستقطاب الكادرات الكفؤة من القطاعين الحكومي والاهلي.. ولسوف تتراجع – أكثر فأكثر – قدرات المستشفيات الحكومية، قبل ان يتم اهمالها، من قبل الكادر الطبي والمواطنين والحكومة، وتلقى مصيرها المحتوم. وهذا هو الهدف النهائي لليبرالية الجديد في قطاع الطبابة، اي الانتقال الى خصخصة هذا القطاع بالكامل. وعندها سوف تتزايد اعباء التأمين الصحي على كواهل الموظفين والمتقاعدين والخزينة لحساب القطاع الخاص.
ما الذي ينقص المستشفيات الحكومية؟ لا تنقصها البيانات، ولا التجهيزات ولا الاسّرة. بالعكس، يوجد الكثير منها. وكمثال نكتفي بذكر مستشفى الأمير حمزة الفخم الذي يضم 500 سرير واحدث التجهيزات في البلاد.
ما ينقص المستشفيات الحكومية هو الكادرات الطبية المؤهلة الكافية. وهؤلاء ليسوا في المستشفيات الخاصة بل في عياداتهم.. لكن هذه المستشفيات تستطيع استئجارهم. وهذا ما يمكن ان تفعله المستشفيات الحكوميّة كحل عملي فعال لمشكلة نقص الكادرات المؤهلة لديها.
بدلاً من اهدار أموال التأمين الصحي على تسديد فواتير – لا يمكن ضبطها – للمستشفيات الخاصة، يمكن استغلال قسم من هذه الاموال للآتي (1) استئجار الاطباء الافراد لرعاية الحالات، والتفاعل مع الكادر الطبي الحكوميّ وتدريبه (2) تحسين مستوى دخل ومكافآت الاطباء في القطاع العام (3) تكثيف البعثات التعليمية والعلمية.
ومن شأن تضافر هذه البرامج معاً تعزيز كفاءة الخدمات الطبية في المستشفيات الحكومية، ورفد كادراتها بالخبرات، وتأمين المعالجة الممتازة للمرضى، وتحويل هذه المستشفيات، الى مراكز للتفاعل والتقدم الطبي.
الحل واضح وبسيط للذين يريدون الحفاظ على القطاع العام في مجال الطبابة، وتحسين مستواه في خدمة الشعب، ولكن الليبرالية الجديدة لا تريد هذا القطاع نهائيا.. ومن البديهي أن الشعب لا يهمها في شيء.
يبقى ان نشير الى الاتفاقية – المذكورة أعلاه – (1) تفيد مصانع ووكلاء الادوية التي سوف تتم المحاسبة عليها باسعار المستشفيات الخاصة .. لا باسعار وزارة الصحة. (2) وهي تمنح – كجائزة اضافية – ما نسبته 1 بالمئة من اجمالي فواتير التأمين المشمولة في «الاتفاقية» لأصحاب المستشفيات الخاصة، أي ما يقدر بحوالي 300-400 الف دينار سنوياً. وهذا المبلغ، وحده، كافٍ لاستقطاب واستئجار مئات الكادرات الطبية ذات الكفاءة العالية لصالح المستشفيات الحكومية.
لكن من الواضح ان وزارة الصحة تخطط لإلغاء دورها، والتحول الى لجنة جباية لصالح القطاع الخاص.. ليس للأطباء.. ولكن للرأسماليين.