مضحكةٌ حملة ‘ النخبة’ السياسية على حكومة الدكتور عبدالله النسور، خصوصا حين يلبس المقاولون والسماسرة وأساطين العقارات والمال والفاسدون وأولاد النعمة، ثوب ‘ اليسار’، ويتنافخون ويجرؤون ويهددون. وبما أن كل هجوم على الحكومات في الأردن مربح سياسيا بلا ثمن؛ فمن ذاك الذي يعفّ عن الربح المجاني؟
لكن المبكي هو اندفاع الكادحين وراء ‘ النخبة ‘ السياسية؛ أولئك الذين لا يملكون سيارات وملاّك الكيا 1300 سي سي، وراء ملاّك السيارات الفارهة والدبابات المدنية من فئة 3000 سي سي فما فوق! الطريف أن الكادحين لم ترتفع أصواتهم بسبب قرار يمسهم هو رفع ثمن أنبوبة الغاز المنزلية.
في الواقع، فإن المسألة تتجاوز مثل هذا القرار وسواه من القرارات الضاغطة على مستوى معيشة الأغلبية؛ فهذه القرارات نتائج جزئية لنظام اقتصادي ـ اجتماعي يقوم على معادلة قطاع خاص يزداد ثراء ولا يسدد من الضرائب والرسوم ما يوازي مستوى أرباحه ولا يتحمل مسؤولياته الاجتماعية، وقطاع عام مثقل بالديون والنهب ويتحمل كامل المسؤوليات الرعائية!
أيّ سياسي يتحمّل عبء الحكم في ظل هكذا معادلة، ولا يكون فاسدا، فإنما يضع نفسه بين المطرقة والسندان، بينما المطلوب منه تحقيق معجزة هي إدارة أزمة المالية العامة المزمنة وسداد أقساط وفوائد المديونية وتمويل الخدمات والدفاع والنفقات الرأسمالية، وذلك من دون موارد ومساعدات كافية، ومن دون قدرة على المساس بأرباح ورفاهية القطاع الخاص، ومن دون سلطة سياسية على تصفية ملفات الفساد، أو إعادة تركيب النظام الاقتصادي الاجتماعي النيوليبرالي القائم على الفوضى والاستهلاك والنهب والفساد.
لأسباب عديدة، لا مجال لشرحها هنا، لا يستطيع القطاع الخاص أن يحكم، فيتم اللجوء للبيروقراطية التي، رغم معرفتها بمدى الحاجة إليها، لا تتورع عن الجلوس على كراسيّ الحكم من دون صلاحيات تمكّنها من حل المشكلات الاقتصادية ـ الاجتماعية، بل وتطالبها جماعات الضغط بتمرير مصالح القطاع الخاص على حساب الدولة والمجتمع، وتمرير مشاريع اصلاح سياسي مشبوهة، سينشأ عنها تفكيك بيروقراطية الدولة كفئة اجتماعية ـ سياسية؛ فالمطلوب من البيروقراط ، في هذا الوضع الكاريكاتيري، أن يحكم ـ لأن القطاع الخاص، بعد أكثر من تجربة، لا يستطيع ذلك، ويمارس الحكم لمصلحة القطاع الخاص، ويعمل، في الوقت نفسه، على إلغاء نفسه سياسيا!
لم نتوثّق مما إذا كان قيل فعلا : ‘ هل نجيء بمسؤولين من المريخ؟ ‘..
ولكن السؤال يظل مطروحا؛ ففي ظل المعادلات السابقة، لا يوجد سياسيون يمكنهم القيام بالحكم ممثلين لعصبية الدولة السياسية من دون القدرة على تلبية المتطلبات الاجتماعية للفئات التي يمثلونها، بل والعمل على تدمير هذا التمثيل والمممثلين معا.
يتأسّى الأردنيون، دائما، على القائد الشهيد وصفي التل. وهو يملك، بالفعل، صلابة وعقلية وكاريزما الزعيم، لكنه كان يعمل في ظروف مواتية؛ فقد كان يملك الصلاحيات، والقدرة السياسية على تصميم البرنامج الاقتصادي الاجتماعي اللازم للتقدم الاجتماعي ودعم التمثيل السياسي للحكم، وبالتالي توطيد مواقع البيروقراط كقوة قيادية للمجتمع والدولة.
وهذا مما لم يعد ممكنا الآن إلا بوساطة تنظيم سياسي وطني شعبي يحل محل السياسيين الأفراد، ويفرض معادلة جديدة للحكم؛ لكن البيروقراط مصمم على الفردية والشللية ويظل، بالتالي عاجزا عن تنظيم الحزب الوطني الشعبي المطلوب، وعاجزا عن التمثيل السياسي خارج الحكم.
في الواقع، تعيش المملكة مأزقا لا مخرج منه إلا بإطاحة الفئات الكمبرادورية ومؤسسة الفساد، وتشغيل منظومة انتاجية وطنية تحت سيطرة الدولة، تنهي هيمنة وفوضى الاستثمار العقاري والمالي، وتسيطر على الموارد الوطنية والاستثمارات، وتفرض نظاما صارما في مجال الضرائب والرسوم والجمارك، بما يمكنها من إعادة توزيع الثروة.
وسيطرة الدولة على المنظومة الاقتصادية الوطنية، لا تعني العودة إلى اقتصاد القطاع العام التقليدي، ولكنها تعني إنهاء فوضى السوق، وتنظيم معادلة إعادة توزيع الثروة، ووقف خصخصة الخدمات العامة كالتعليم والطبابة، واعتماد الراتب الاجتماعي بقرار سياسي في القطاع العام، وبالنضال النقابي في القطاع الخاص.
ما هو الراتب الاجتماعي؟
هو الدخل الشهري الذي يتقاضاه الموظف أو العامل بأجر محسوبا من وجهة نظر اجتماعية وليس إقتصادية. فالإنسان، في النهاية، له متطلبات أساسية كالقدر اللازم من السعرات الحرارية والفيتامينات والسكن والنظافة والطاقة الكهربية والملابس والتدفئة والنقل وتربية وتعليم الأبناء والطبابة والثقافة. وهذه المتطلبات لا بد من تأمينها بغض النظر عن قانون العرض والطلب الخاص بقوة العمل في السوق. وهو المعيار الوحيد لوجهة النظر الاقتصادية الليبرالية.
كيف يتم حساب الراتب الاجتماعي؟
على أساس الأسعار المحررة للاحتياجات الأسرية. بعد ذلك يتم توليف الراتب الاجتماعي من بندين، التأمينات والبدل النقدي. في البند الأول لدينا التعليم والطبابة. وهما مؤمنان في الأردن، لكن المشكلة الحالية تكمن في الجودة. وهي ثغرة تضطر الفئات الوسطى للضغط على مستوى معيشتها لتأمين تعليم جيد وطبابة لائقة لأبنائها. هذه الثغرة ينبغي معالجتها بتجويد الخدمة بصورة فعلية. ولا يتوقف ذلك على المزيد من الإنفاق، بل، بالأساس، في تحسين الإدارة.
بالنسبة للسكن، كانت لدينا مبادرة ‘سكن كريم’ التي تم اغتيالها بالفساد، لكن ذلك لا يعني إلغاء الفكرة، بل البحث عن وسائل لتقديم خدمات السكن أو تقديم قروض بلا فوائد أو أخيرا احتساب بدل نقدي ملائم عن السكن في الراتب الاجتماعي. ومن الملاحظ أن الحكومة التي تخلت عن دورها في تأمين النقل العام، وتوسعت في إنشاء بنى تحتية تسمح بالبناء الفوضوي ـ وكل ذلك يفرض على الأسر اقتناء السيارات ـ مما جعل الأغلبية محلّ نهب تجارة السيارات منخفضة الجمارك والقروض، والخزينة محل نهب مقاولي الطرقات . ولا حل لهذه المشكلة إلا بتنفيذ خطة للنقل العام الجيد والمدعوم بين المحافظات وداخلها، من خلال شبكة سكة حديد على المدى الطويل، لكن، فورا، من خلال شبكة حافلات كبيرة ومتوسطة ومنتظمة يتم تشغيلها في وقت قياسي وتكون أسعارها مدعومة لوقف آثار تحرير أسعار المحروقات، ويلحظ تضمين الراتب الاجتماعي، حتى ذاك، بدل النقل وبدل التدفئة في بند أساسي.
تُحتَسب البنود الأخرى في سلّة العيش، وفق معادلات إكتوارية تأخذ بالإعتبار الإحتمالات التضخمية والمشكلات الناجمة عن تحرير الأسعار. ويتم في النهاية تعيين محتوى الراتب الاجتماعي.
متوسط الدخل الفردي في القطاع العام الآن هو 419 دينارا. واعتقد أنه سيرتفع في الراتب الاجتماعي إلى حدود 550 دينار، كبدل نقدي، وليس لدي معطيات لحساب البدلات الأخرى غير النقدية، ولكنني أرجّح أنه من الممكن تغطيتها ضريبيا.
3 مهمات
أولا، اعتماد الراتب الاجتماعي بالمنظور الشامل أعلاه.
ثانيا، ضبط سوق الغذاء والدواء، من خلال التدخل الحكومي الكثيف. يتطلّب ذلك إعادة إحياء وزارة التموين بصلاحيات متعددة من بينها الإستيراد والبيع الداخلي وتحديد الأسعار والمخالفات الخ . من دون ذلك، فإن حرية السوق سوف تأكل، كالوحش، أي اجراءات اجتماعية.
ثالثا، إطلاق حرية النقابات واللجان العمالية والإضرابات والإعتصامات لتمكين موظفي وعمال القطاع الخاص من تحصيل اتفاقيات جماعية تقوم على أساس الراتب الاجتماعي.