خلال إسبوعين، سيجتمع خبراء من عدة دول معنية في عمان، للعمل على تحديد التنظيمات التي تُعَدّ إرهابية، وتصنيفها في قائمة سوف يعتمدها مجلس الأمن الدولي، لمحاربتها وإلزام الدول الداعمة لها بالتخلي عنها.الخبراء الأمنيون الأردنيون الذين يحظون بثقة الدولتين الأعظم في آن واحد، سيلعبون دور المنسق العام لهذه العملية التي يتضافر فيها جانبان، أمني ـ تقني وسياسي.
في الجانب الأول، الأمني ـ التقني، هناك إجماع بين الدوائر الأمنية الدولية، على القدرات الاحترافية للمخابرات الأردنية في مجال المعلومات حول التنظيمات الإرهابية وشبه الإرهابية. لكن، علينا أن نلاحظ أن موسكو كانت قادرة على الإفادة من المساعدة التقنية الأردنية، في إطار ثنائي، غير سياسي؛ غير أن القيادة الروسية أرادت أن تمنح للأردن دورا سياسيا في الجهود الإقليمية والدولية لمحاربة الإرهاب. وبذلك، يكون الدور الأردني الأهم، في الجانب الثاني، السياسي. وعلى الأرجح أنه توفرت ، لدى الروس، الثقة بتطابق التوجهات السياسية بين موسكو وعمان، حول المعايير الموضوعية لتحديد المنظمات الإرهابية من سواها التي يمكن اعتبارها تنظيمات مسلحة غير إرهابية في سوريا والعراق. وقد كانت لعمان تجربة مع معظم تلك التنظيمات، سواء بصورة مباشرة أو عن طريق الاختراق.
اللافت أن الحلفاء التقليديين للأردن، كالولايات المتحدة وأورويا والعربية السعودية، ظلّوا مصرين، طيلة الوقت، على التعامل مع الفعالية الأردنية كعامل وظيفي في خدمة مخططاتهم، بينما ألحّ الروس على دور سياسي للأردن في عملية أمنية عسكرية سياسية محورية على النطاق الدولي. وكتتويج لمسار ابتدأ بالاتفاق المعقود بين الجيشين ، الأردني والروسي، للتنسيق العسكري في الجو وفي المنطقة الحدودية مع سوريا، ومنح الأردن دورا أمنيا وسياسيا في الحرب على الإرهاب، دفعت موسكو باتجاه اعتماد عمان كمقر للغرفة الإعلامية حول الإرهاب. ولا يتمتع الإعلام الأردني بأي قدرات مميزة، لكن القرار سياسي بامتياز.
هذه العلاقة المتنامية بين موسكو وعمان، مرشحة للتفاعل في عمليات تسليح نوعية للجيش العربي الأردني، ولسلاح الجو؛ الكرة في ملعب عمّان؛ ذلك أن الاختراق التسليحي للمنطقة هو قرار استراتيجي لدى الرئيس فلاديمير بوتين الذي يكنّ، أيضا، محبة خاصة للأردن.
راجمات الصواريخ ومنظومات الدفاع الجوي وطائرات السوخوي، كما ثبت في الحرب الروسية على الإرهاب في سوريا، ذات كفاءة عالية جدا؛ بالإضافة إلى الفارق النوعي في التكلفة؛ فالسلاح الروسي رخيص نسبيا، ويمكن تسديد بعض ثمنه بسلع وخدمات أردنية، كما يمكن التشبيك مع الروس والصينيين لتمويل صفقات السلاح الروسي بمشروعات صينية. وهي عملية من شأنها أن تخلق ترابطا بين الاحتياجات الدفاعية والاحتياجات التنموية في البلاد.
على جانب آخر، الروس جادون في مشروع بناء المفاعل النووي الأردني لانتاج الكهرباء، وتمويل 50 بالمئة منه، بحجم خمسة مليارات دولار. يمكن تطوير العلاقات مع روسيا الاتحادية في مجال الطاقة إلى حدود استراتيجية. لقد منحت روسيا لإيران، مؤخرا، قروضا ميسرة تنموية بحجم سبعة مليارات دولار. ولا شيء يحول، موضوعيا، دون الإفادة من صفقة كهذه بين عمان وموسكو؛ المشكلة ، في اعتقادي، تتعلق بالإرادة السياسية الأردنية، إنما ، أيضا، بعقلية واتجاهات الولاء للغرب لدى الطاقم السياسي الأردني الذي لم يعد يجتهد لإدارة المصالح الوطنية الأردنية في مرحلة تعدد الأقطاب في السياسة والاقتصاد على المستوى الدولي.
تنظر موسكو إلى الأردن كبلد صديق، وتقدر منحى الاعتدال السياسي والاستقرار والفعالية الأردنية المفتوحة على احتمالات استثمارية والوضع المستقر للمسيحيين الأردنيين. لكن المزاج السياسي والإداري في الأردن ما يزال متجمدا في حقبة الواحدية القطبية والأيديولوجيا النيوليبرالية. في الواقع، نحن نحتاج إلى نخبة سياسية جديدة قادرة على التعامل مع عالم جديد.
للملك عبدالله الثاني، تصريح بليغ حين قال إن ‘ وجود روسيا في المنطقة أصبح واقعا لا يمكن تجاهله، وينبغي التعامل معه.’ المؤسستان، العسكرية والأمنية، لديهما الدينامية اللازمة لهكذا تعامل. وقد بادرتا إليه. لكن المؤسسات الأخرى جامدة عند دروس وأوهام غربية، عفا عليها الزمن.
إذا لم تكن الولايات المتحدة في طريقها للانسحاب من الشرق الأوسط؛ فمن الواضح أنها تسلّم، اليوم، بميزان جديد للقوى يأخذ بالاعتبار تنامي الحضور الروسي والقدرات الاستثمارية الصينية. لم يحدث هذا التسليم اقتناعا ، وانما اضطرارا؛ فبعد حوالي الخمس سنوات في استخدام كل الوسائل السياسية والإعلامية والإرهابية لإسقاط الدولة السورية، وكسر القاعدة الرئيسية للروس والإيرانيين في المنطقة عبر تحطيم الجيش السوري وحلفائه في حزب الله، اصطدمت المحاولات الأميركية بالجدار، فعلى الضد من كل التوقعات الغربية ، صمد السوريون وحلّ الجيش الأحمر في سوريا وخرجت التنظيمات الإرهابية عن السيطرة وتحولت إلى تهديد إقليمي وعالمي بالغ الخطورة. هذا المشهد هو الذي قرر محور السياسة الدولية الآن، باعتباره محور الحرب على الإرهاب. وقد منح الروس للأردنيين مكانا ومكانة في هذه العملية الكبرى، وبقي علينا أن نغتنم الفرصة، سياسيا واقتصاديا ودفاعيا، من التجميد الواقعي للعلاقة مع إسرائيل، إلى التحرر من التبعية لبعض الأشقاء إلى تطوير صيغة مشرقية، أمنية وتنموية، مع سوريا والعراق، واعتبار الأردن حقلا للاستثمار الروسي ـ الصيني في مشروع إعادة الإعمار الخ.
ما نحتاجه، بالإضافة إلى نخبة سياسية واقتصادية جديدة متحررة من الولاء للغرب، هو إعادة هيكلة الممارسة السياسية والإعلامية والتربوية والثقافية والأمنية، وفق منظور الدور المستقبلي للأردن كمنسق الحملة الدولية لمكافحة الإرهاب؛ نحتاج إلى الجرأة في مواجهة التطرف والتكفير وضرب البؤر الإرهابية وتنظيف المناهج من الأفكار الداعشية والسير قدما نحو علمنة الدولة.
وأهمّ نقطة في هذا كله هو تلافي الاستمرار في اتخاذ القرارات في كواليس مغلقة، والشروع في الحوار حول موضوع محوري هو السياسات الأردنية في عهد تعدد الأقطاب.
موازين القوى الإقليمية والدولية تسمح لنا بمسار جديد. هل نمتلك الجرأة؟ هذا هو سؤال المرحلة.