يلح بعض الكتاب من مناصري الليبرالية الجديدة ، على تسمية المعارضة الصادرة من القوى الوطنية التقليدية من داخل النظام السياسي الأردني بأنها ‘ معارضة بيروقراطية ‘ وهي تسمية غير دقيقة ، لأن البيروقراط هو أداة من جهة ، وتعبير عن شبكة مصالح اجتماعية من جهة أخرى ، وليس هو ، بحد ذاته ، طبقة اجتماعية .
على كل حال ، وعلى أية حال ، فإنني ، على سبيل الاصطلاح المؤقت ، أقبل صفة المعارضة البيروقراطية’ لكي أقول أولا أنها ، أيضا، ليبرالية ـ ولكنها وطنية ـ وثانيا أن لها برامج اقتصادية مقررة في نصوص رسمية . وأهمها تقرير اللجنة المالية والاقتصادية لمجلس الأعيان . وهذه وقفة مع التقرير الصادر هذا العام .
بخلاف الليبرالية الجديدة، الكمبرادورية ، أظهر تقرير اللجنة المالية والاقتصادية في مجلس الأعيان، تبلور رؤية ليبرالية وطنية واجتماعية ، في وثيقة رفيعة المستوى ، مهنيا وفكريا ، يمكن أن تكون منطلقا جديا لحركة سياسية تجديدية من داخل النظام السياسي وحرسه.
كيساري، لا أوافق ، بالطبع، على الليبرالية الاقتصادية ، ولكنني ، كوطني أردني، يهمني أن تتبلور التيارات السياسية من كل المشارب، على أساس وطني ، ووفق رؤية اجتماعية ، وفي مستوى فكري راق.
يشكك التقرير ، كأي معالجة ليبرالية، بالدعم الحكومي للسلع والخدمات ، ولكنه يمد الخط على استقامته ، رافضا، في الوقت نفسه، تقديم الدعم ذاك ، مثلما هو حاصل الآن، لرجال الأعمال، أو الإنفاق السياسي أو تمويل مشاريع البنية التحتية لصالح الطبقة الجديدة أو لصالح ‘ استثمارات ‘ غير منتجة .. فإذا كان لا بد من حكومة مركزية رشيقة بموازنة مضبوطة و محدودة العجز،فليس مجديا ولا عادلا، شطب الدعم عن الفقراء وتضخيمه للأغنياء، على شكل تسهيلات وإعفاءات وتفويض أراض ، وإنفاق سياسي ومشاريع غير ضرورية ، هدفها خدمة الاستثمارات العقارية والتجارية.
ويوجه التقرير نقدا عنيفا لتلك المشاريع ‘فليس كل استثمار يستحق الدعم والتحفيز، خاصة المشاريع التجارية والإعمارية التي تستخدم العمالة الأجنبية في نشاطها، وتستخدم البنوك المحلية لتمويلها، وتبيع منتجاتها العقارية للأردنيين، وتحوّل أرباحها ورأسمالها بالعملات الصعبة إلى الخارج. ‘
وبينما يطالب التقرير ، العاملين برفع إنتاجيتهم، باعتباره مجال مساهمتهم في بناء الاقتصاد الوطني ، ويصر على أنه ، من دون رفع الإنتاجية ، تصبح كل زيادة في الأجور ، مصدرا لانفلات تضخمي وخيم العواقب، فإنه يؤكد ، بالمقابل ، على قيام الفئات الرأسمالية ، بالمساهمة الجدية في تمويل الخزينة ، من خلال قانون جديد لضريبة الدخل ، يكون تصاعديا وعادلا وديناميكيا.
ويخصص التقرير جانبا مهما لتناول مشكلة التربية والتعليم ، من ناحية التمويل ، إذ يطالب بزيادة مخصصات هذا القطاع وإطفاء ديون الجامعات الحكومية، ومن ناحية العملية التربوية نفسها ، إذ يطالب بالتركيز على الثقافة الوطنية المدنية المعززة لقيم العمل والإنتاجية والمواطنة ، وعلى إعداد الكادرات لسوق العمل ، وليس متخصصين في مجالات أكاديمية.
وفي المجال الصحي ، لا يستطيع المرء سوى أن يوافق على ما أشار إليه التقرير من هدر في نفقات المعالجة ، وخصوصا فواتير المستشفيات الخاصة التي تسددها وزارة الصحة، ولكنه لا يسلط الضوء على ثغرات الخدمات الصحية العامة ، كما يفعل الليبراليون الجدد، للمطالبة بخصخصة القطاع ، بل للتأكيد على ضبطه وتطويره. ويشدد ، هنا ، على قضية بالغة الأهمية ، وهي ضرورة التركيز على البعثات الدراسية والتدريبية في المجال الطبي ، وتحسين أوضاع الكوادر الطبية في القطاع العام ، استدراكا للنقص والتسرب في الموارد البشرية في وزارة الصحة.
وفي التقرير، اقتراحات عديدة مهمة، أشير، هنا، إلى إحداها فقط ، وهو يحسم النقاش حول أولوية الاستفادة من المصادر المائية ـ مياه الديسي، مثلا، لمناطقها أم للعاصمة ـ من خلال إنشاء الناقل الوطني للمياه من شمال البلاد إلى جنوبها. وذلك، وسواه من الاقتراحات والمعالجات الموضوعة في إطار رؤية متماسكة حول منطق داخلي ليبرالي لكنه ، كما قلنا ، وطني واجتماعي وحضاري.