يعدّ المسيحيون الأردنيون، أحفاد الغساسنة، أقدم المكونات الديموغرافية الاجتماعية في البلاد. إنهم الأصل. وبتحدّرهم من وانتظامهم في عشائر عربية كريمة المحتدّ، لا يعانون من إشكالات الهوية القومية والوطنية؛ وإنما ينظرون إلى أنفسهم كعرب أردنيين لا كأقلية دينية أو اتنية أو اجتماعية. ومن صفوف مسيحيي الأردن، برز، دائما، أكثر الوطنيين الأردنيين، جذريةً وإخلاصا.
يعود تجذّر المسيحيين الأردنيين الوطني إلى أن بلدنا، قبل الهجرات وضم البادية، كان بلدنا مسلما ـ مسيحيا، ابتدع صيغة للاندماج الوطني على أساس الروابط العشائرية والجهوية، التي تعلو على الانتماء الديني. وكانت هذه الصيغة العربية الوحدوية العلمانية في جوهرها، تتناقض مع النزعة العثمانية السوداء للتعامل مع المجتمعات العربية من منظور طائفي. ولذلك؛ ففي جرى فصل المسيحيين الأردنيين عن مواطنيهم، سياسيا، في نظام ‘الكوتا’ الذي ما يزال مستمرا حتى اليوم. وهو نظام مسيء للمكوّن الوطني المسيحي، ويحشر المسيحيين الأردنيين في إسار طائفي مرفوض.
المسيحي الأردني الحقيقي هو، بالضرورة، وطني وعلماني وحارس الحضارات المتعاقبة في بلادنا؛ وقد آن الأوان ليكسر قيود الكوتا في البرلمان والحكومة، كما كسرها في الحياة العامة، الاقتصادية والسياسية والثقافية والمهنية الخ
وإذا كنّا اليوم بصدد اصلاح سياسي جدي؛ فإنه لا يمكن المرور على الكوتا البرلمانية المسيحية، من دون وقفة مراجعة؛ فالشراكة السياسية الحقيقية للمسيحيين تتحقق في إلغاء الكوتا، وشطب ذلك التصنيف الطائفي من الدوائر الانتخابية وبطاقات الأحوال المدنية والمناصب العامة.
إلغاء الكوتا البرلمانية قد يؤدي، على المدى القصير، وفي ظروف انتشار الطائفية في المنطقة، إلى برلمان ليس فيه نواب مسيحيون؛ ولا توجد أي مشكلة في هذه النتيجة؛ فالمسيحيون ليسوا طائفة، ويمكن أن يمثّلهم نواب غير مسيحيين، وربما أفضل من النواب المسيحيين. غير أن إلغاء الكوتا لن يؤدي، بالضرورة، إلى استبعاد الشخصيات الوطنية المسيحية من البرلمان، بل ربما يزيدها عن سقف الكوتا. وعلى العموم، فليس ذلك هو المهم؛ فالأهم هو تحرير المكوّن المسيحي من الكوتا الطائفية. وهو ما يفيد تطوير العملية السياسية الوطنية، ويفيد النخب المسيحية معا، كما سنرى تاليا:
أولا، إلغاء الكوتا المسيحية سوف يدفع بالكتلة المسيحية ـ وهي كتلة تقدمية ـ إلى الانغماس في العمل السياسي الوطني، وتطوير حضورها السياسي الفعال للتعويض عن الكوتا الجامدة؛
ثانيا، وإلغاء الكوتا المسيحية سوف يحسّن من نوعية المرشحين المسيحيين السياسية والثقافية، وقد يفرز نوابا أكثر صدقية وفعالية؛
ثالثا، … وسوف يحرر الكتلة المسيحية من الضغوط الاجتماعية الطائفية والولاءات العشائرية وتأثيرات المال السياسي؛ فمن المعروف أن القادرين على النجاح بالانتخابات العامة من المسيحيين ليسوا أفضل العناصر في النخب المسيحية، لأن هذه العناصر ـ الأفضل ـ هي التي تحتل مواقع وطنية لا طائفية؛
رابعا، إن إلغاء الكوتا البرلمانية، يتطلب حكما إلغاء الكوتات الأخرى في المناصب العامة، فتكون مطلقة وفقا للكفاءة، وتنتهي الأعراف التي تحول دون تسنّم المسيحي الأردني مناصب رئيس وزراء، وزير داخلية، محافظ الخ
… أما إذا كان هناك إصرارٌ على الكوتا، فينبغي، لكي يستقيم التمثيل أن تصبح الكوتا المسيحية مثل كوتا البدو، للمرشحين والناخبين، أي في دائرة وطنية واحدة للمسيحيين، مرشحين وناخبين؛ فالوضع الحالي أعرج، ويقود إلى أسوأ أشكال التمثيل: هناك كوتا للمقاعد النيابية لكن الاقتراع لها يتم خارج الكوتا، مما يؤدي إلى أضعف حصيلة نيابية: مقاعد مسيحية مضمونة ـ فهي، إذاً، غير سياسية أو تنافسية ـ يحتلها نواب حصلوا على أصواتهم بوسائل غير سياسية، ما يحسم فيها عوامل من خارج توجهات الكتلة المسيحية.
بإلغاء الكوتا، حين ينجح نائب مسيحي، فسيكون ضمن مقعده في صراع سياسي وطني، ومنافسة غير مضمونة تستقطب الشخصيات السياسية، وتستبعد الوجهاء.
هذا حل. وهو الأفضل. لكن إذا كان من غير الممكن تطبيقه، فلا دواء للعرج في التمثيل السياسي للمسيحيين، سوى بالدائرة المسيحية المغلقة؛ وعندها سوف تنتفي تأثيرات النفوذ والمال، وتحصل الكتلة المسيحية على ممثلين عضويين.