ناهض حتر يكتب: واهمون

‘ الذين يعتقدون أن هذا البلد قد انتهى واهمون، والذين يعتقدون أن هذا البلد بلا عزوة واهمون كذلك، والذين يتصرفون بما يخص هذا البلد كأنه (جورعة) مال داشر واهمون كذلك، والذين يتصرفون كالفئران الخائفة على سفينة في بحر هائج سيغرقون هم كما تغرق الفئران وستبقى السفينة تمخر العباب إلى شاطئ السلامة’ وصفي التلحين تقرأ تاريخ الأردن الحديث، سوف تجدْ أن المتحدات الاجتماعية المتكونة في سلسلة جبال شرقي الأردن، في بنية فريدة من التدامج البدوي الفلاحي، أظهرت من المرونة والصلابة معا، ما جعلها عصيةً على انكسار ظنّه الآخرون ممكنا بسهولة.
في مراسلات إبراهيم باشا مع قائده الميداني على مشارف الكرك، ، نلاحظ أن الباشا كان يعتقد أن قواته بصدد نزهة، ولكن سرعان ما اتضح أنها كانت مواجهة قاسية مع مقاومة لا تفتر. ذهب الباشا وبقيت الكرك.
باشا آخر ، في العام 1910، هاجم الكرك ونكّل بانتفاضتها، لكن سامي باشا الفاروقي، القائد العثماني الشرس كان قد توصل إلى أنه لا يوجد بديل عن الإذعان لمطلب الانتفاضة القاضي برفض تجنيد أبناء المنطقة خارجها.
بنادق بني صخر وعشائر البلقاوية ، لم تنكسر يوما في مواجهة الغزوات الوهابية الحثيثة التي لم تتوقف إلا في العام 1924؛ لقد رسمنا حدودنا بالدم!

البدو الفلاحون المنخرطون في تأسيس الدولة السورية الكبرى قاتلوا الفرنسيين حتى آخر رصاصة، وحين انكفأوا إلى شرق الأردن، كان قرارهم استمرار حياة الدولة القومية على جزء من ترابها، الأردن، واتخذوا العلم السوري ذا النجمة علما للأردنيين.
علي خلقي باشا الشرايري، العسكري الفذ والمناضل القومي، هو الذي اقترح ‘ رابطة مدنية للعش الصغير’؛ ففي تصوره الوطني الديموقراطي الحديث، رأى الدولة ‘رابطة مدنية’ للمتحدات الاجتماعية الفاعلة في سلسلة جبال شرق الأردن.
وفي العلاقة مع الصيغة الناشئة بتوافقات النظام الجديد والانتداب البريطاني، ابتكر الأردنيون صيغة مضادة مبدعة تقوم على مسارين، من جهة أولى معارضة المعاهدة الأردنية ـ البريطانية، والتصدي للغزو الصهيوني، والنضال من أجل حياة دستورية، وفي الوقت نفسه، من جهة أخرى، التفاني في بناء الدولة الوطنية.
أول مدرسة ثانوية حديثة ، ثانوية السلط التي خرجت الرعيل الأول من البناة، لم تبنها جهة حكومية، وإنما بنتها عشائر السلط … وكل تجارب الحركة الوطنية الأردنية، منذ العشرينيات، نهضت على أكتاف العشائر؛ فالعشائر الأردنية، بتركيبتها الفريدة نصف البدوية نصف الفلاحية، ليست في حالة تضاد مع المجتمع المدني، بل هي مؤسسة المجتمع المدني الرئيسية في الأردن.
المؤتمر الوطني الأردني لسنة 1928 الذي تصدى للمعاهدة البريطانية، وأسس للاستقلال، وتصدى للتسلل الصهيوني، وحفر تقاليد النضال الديموقراطي والدستوري والاجتماعي، كان، في تركيبته الرئيسية، يضم ممثلين عن العشائر الأردنية؛ وكانت تلك لحظة اكتمال الوطنية الأردنية المدنية الحديثة. العشائر الأردنية هي التي اتخذت قرار تأسيس الدولة ك’ رابطة مدنية’ وهي التي اطلقت الحركة الوطنية الجامعة الحديثة، وأبناؤها هم الذين خاضوا تجربة الأحزاب اليسارية والقومية في الخمسينيات والستينيات، في تواصل صميم مع تجربة الآباء والأجداد في المؤتمر الوطني، وفي استمرار لخطاب مدني اتسم بنبذ الميول الاقصائية والعنفية، ولم يعرف المليشيات والفكر المليشيوي أبدا.
المليشيات وفدت إلينا لاحقا في أواخر الستينيات، من خارج التقليد السياسي الوطني الأردني، وحين سعت هذه المليشيات لحسم الصراع السياسي بالعنف، وقفت العشائر وراء الجيش والدولة، لانهاء ظاهرة المليشيات. وهو ما حدث في السبعين تحت قيادة الشهيد وصفي التل الذي كان رجل المقاومة لكنه كان رجل الدولة المدنية في آن.
كل الناشطين في المجال السياسي والحزبي والنيابي والثقافي مدينون لانتفاضة نيسان 1989 التي كسرت الاحكام العرفية؛ فماذا كانت تلك الانتفاضة؟ ألم تكن انتفاضة عشائرية؟
وأخيرا، ماذا كان الحراك الاردني لسنوات 2010 ـ 2012 إذا لم يكن في جوهره تعبيرا عن انصهار العشائر في عملية سياسية وطنية مدنية معادية للفساد والاستبداد والتفريط بالحقوق الوطنية؟
العداء للعشائر وشيطنتها والإساءة إليها ووصفها بأنها مليشيات … إنما هي بضاعة عملاء المحافظين الأميركيين الجدد الذين يعملون، تحت شعارات ديموقراطية زائفة، لتدمير المجتمعات بالغزو العسكري المباشر ـ كما في العراق ـ وبدعم الجماعات الإرهابية ـ كما في سوريا ـ وبنخر أساسات الشخصية الوطنية الأردنية، مقدمة لتحطيم الدولة واقامة الدولة البديلة في بلدنا لحساب الصهيونية.
في المرحلة الأولى جيء بعملاء من خارج العشائر للهجوم عليها؛ ولكنهم اكتشفوا أن توظيف أبناء عشائر هو أفضل لتمرير المؤامرة. واهمون.

Posted in Uncategorized.