ليس هناك بوابة أخرى للاستدارة الأردنية نحو التموضع الوسطي بين المحورين المتصارعين في المنطقة، أفضل من البوابة العراقية؛ فالعلاقات بين البلدين لها جذور تاريخية تمتدّ إلى العشرينيات، ومراحل ازدهار كبرى، خصوصا في الثمانينيات والتسعينيات.
وإذا كان القرار السياسي في العراق الهاشمي، ولاحقا في عراق الرئيس صدام حسين، قد لعب دورا في العلاقات الأردنية العراقية المميزة، فإن الدور الأبرز يظل كامنا في دكتاتورية الجغرافيا السياسية؛ فالأردن هو المنفذ البري ـ البحري الأهم للعراق المغلَق، بل المخنوق خليجيا، وبالمقابل، فإن العراق هو العمق الاستراتيجي، الاقتصادي والدفاعي بالنسبة للأردن.
ويواجه البلدان الآن، التحدي المشترك المتمثل في المنظمات الإرهابية التي تستوطن غربيّ العراق، ويشكّل التعاون الثنائي لاستئصالها، المهمة رقم واحد أمام تحقيق استراتيجية استنهاض أوجه التكامل الاقتصادي الواعدة من البصرة إلى العقبة، ومن بغداد إلى عمان؛ فلا خط أنبوب النفط ولا خط السكك الحديد، ولا خط التجارة والسياحة الخ يمكنها أن تسلك بوجود التهديد الإرهابي.
مكافحة الإرهاب هي، إذاً، المدخل الرئيسي لإعادة ترتيب العلاقات الأردنية ـ العراقية، وتستطيع عمان أن تلعب دورا فعالا في هذا المجال لجهتين: التعاون الاستخباري ـ الأمني، وربما القتالي أيضا، واستخدام علاقاتها التقليدية مع عشائر غربي العراق، للتوصل إلى إطار دائم للمصالحة والاستقرار وعزل القوى التكفيرية ـ الطائفية المتطرفة.
بيد أن العراقيين والأردنيين لن يتمكنوا من تحقيق إنجازات جدية في المجال الأمني من دون التوافق على رؤية مشتركة لمكافحة الإرهاب في سوريا التي تحولت مقرا للمنظمات الإرهابية العابرة للحدود، ولا مناص لبغداد وعمان من التعاون مع دمشق لمحاصرة هذه المنظمات، وضربها واستئصالها؛ يعني ذلك أن تغييرا نوعيا من المتوقع أن يطرأ قريبا على الموقف الأردني من المسألة السورية، يجعله أقرب إلى الموقف العراقي منها.
هل ننتظر، إذاً، تحالفا مشرقيا يعيد صياغة الاصطفافات السياسية في المنطقة؟
ينبغي القول إن زيارة الوفد الأردني برئاسة الدكتور عبدالله النسور إلى بغداد، ومباحثاته المتعددة الموضوعات مع المسؤولين العراقيين، وما صدر على هامشها من تصريحات ودية للغاية، تنبئ عن جرأة أردنية في مواجهة ضغوط إقليمية مضادة معروفة.
إلا أن تلك الضغوط أصبح ممكنا تجاوزها، خصوصا وأنها تقود الأردن إلى عزلة إقليمية واسعة النطاق، وربما التورط في الجفاء مع محور يمتد من موسكو إلى طهران إلى بغداد إلى دمشق إلى جنوب لبنان. وهو محور يسجل، كل يوم، انجازات سياسية واقتصادية جديدة، ولم يعد ممكنا تجاهله. وإذا كان الانفتاح على نظام الرئيس بشار الأسد وحلفائه اللبنانيين، مبكرا، والتواصل الحميم مع إيران صعبا في المدى المنظور، فإن إقامة علاقات متوازنة وفورية مع هذا المحور، يمرّ، إجباريا، عبر روسيا والعراق. وهو ما سبق أن اقترحناه، مرارا، في مقالات ولقاءات، منذ 2012، لكن بعض الأوساط السياسية الأردنية، كانت لديها أوهام عن إمكانية إسقاط الأسد في دمشق، والمالكي في بغداد، وضرب إيران، وانهيار المحور كله. وهذه الأوهام، أخّرتنا عن الركب، وكلفت المصالح الوطنية الأردنية، الكثير.
علاقاتنا مع الروس جيدة، إلا أنها تراوح في مكانها، ولا تبذل الحكومة الأردنية، جهودا استراتيجية في تطويرها على رغم أن الطريق مفتوحة بين عمان وموسكو نحو أشكال متعددة وعميقة وكبيرة من التعاون الاقتصادي والدفاعي والسياسي والأمني. وبينما ما زلنا ننتظر شيئا ما على هذا الطريق، تبدو الحكومة الأردنية، وقد عقدت العزم على السير نحو تفاهمات مع العراق، تتمفصل على التفاهمات الدولية والإقليمية الكبرى بين موسكو وواشنطن وطهران.
هناك الكثير من النقد الذي يمكن توجيهه لسياسات النسور الداخلية، إنما ينبغي الاعتراف بأن أداءه في بغداد كان رفيعا، وقد أضفى على الحدث لمسة شخصية حين اعترف لرئيس الوزراء العراقي، نوري المالكي، على الملأ، بأنه كان صادقا في تنفيذ وعوده للأردن. وبهذه المناسبة، أذكّر المسؤول الأردني الكبير الذي بدا متشككا بما قلته له، في أواخر 2012، عن نزوع المالكي لاستلهام استراتيجية الرئيس صدام نحو الأردن، وعن الرغبة العميقة لدى الحكومة العراقية للتواصل مع عمان، كمخرج عربي يوازن علاقاتها الإقليمية الأخرى.
وبما أن العلاقات الخارجية، على رغم طابعها الموضوعي، تظل تستند إلى الأداء الشخصيّ والوزن النوعي للسياسيين، فلعلي اقترح أن يحتفظ النسور، بحقيبة الخارجية لنفسه، خصوصا وأن وزير الخارجية الحالي لم يعد ملائما لإدارة المرحلة الجديدة في علاقات الأردن الإقليمية.
إلى ذلك، ينبغي التفكير في إرسال سياسي من وزن ثقيل إلى سفارتنا في بغداد؛ فنحن الآن نتجه نحو تنسيق سياسي وأمني، كما نتجه نحو مشروعات كبرى من شأنها أن تحرر الأردن من حاجته إلى المساعدات الخارجية، وتمكينه من الاستقلال المالي وتحسين أدائه الاقتصادي والشروع في خطط تنموية جديدة؛ فالعائدات المتوقعة من أنبوب نفط البصرة ـ العقبة، تصل إلى ثلاثة مليارات دولار سنويا، كما أن الحصول على النفط العراقي بأسعار تفضيلية، سوف يساهم، جديا، في حل معضلة الطاقة بالنسبة للاقتصاد والمجتمع الأردنيين. كذلك، فإن إنشاء خط سكة الحديد بين البلدين، سوف يؤدي إلى ازدهار تجاري غير مسبوق وسيولة العمالة الأردنية الماهرة التي تحتاجها مشاريع إعادة البناء في العراق. ويمكن التفكير، بالطبع، بمشروعات واستثمارات أخرى في المجالات الصناعية والزراعية والخدمية والسياحية.
مستقبل الأردنّ عراقيٌ بامتياز. وعلينا ألا نتباطأ في الذهاب نحو المستقبل.