التحليل الذي قدمه روبرت ساتلوف وديفيد شنيكر حول الوضع في المملكة، ليس جديدا؛ إنما الجديد المهم فيه هو توقيعهما على هذا التحليل وصدوره عن معهد واشنطن، بما يعني انطلاق سيرورة لتغيير المقاربة الأميركية التقليدية حول الأردن، (والقائلة إن عدم الاستقرار في البلاد ناجم، رئيسيا، عن تعثّر اصلاح سياسي يمنح ذوي الأصول الفلسطينية، تمثيلا سياسيا عادلا)، إلى مقاربة جديدة ترى أن انشقاق الشرق أردنيين عن النظام، هو السبب الجوهري للأزمة الأردنية؛ فهؤلاء الذين يشعرون بالاغتراب في بلدهم، ويعانون من الإفقار والتهميش، ينظرون إلى الإصلاح السياسي الليبرالي بوصفه تهديدا وجوديا، بينما يتنامى غضبهم العميق إزاء الفساد، باعتباره المصدر الأساسي لتدهور التنمية والخدمات وشيوع البطالة. ويشدد ساتلوف ـ شنيكر على أولوية اجراءات مكافحة الفساد على كل المستويات، وتعزيز الاستثمارات والانفاق الخدمي في المحافظات، وتعزيز وضع القوات المسلحة بتوجيه الاستثمار فيها نحو الدروع والمشاة، بدلا من الاستثمار المكلف وغير المجدي في الطيران.
العناصر الأساسية من هذه المقاربة، تناولتها المناقشات والكتابات والأدبيات الأردنية، بصورة كثيفة، منذ العام 2010. وهي تعود إلى المقاربة التي قدمها كاتب هذه السطور، منذ وقت مبكّر، حول استبدال التموضع السياسي في البنية الأردنية، أو ما يسميه ساتلوف وشنيكر، ‘ انشقاق’ الشرق أردنيين عن النظام، بمفاعيله الراهنة والمستقبلية. وفي العام 2012، بُذلتْ جهود حثيثة جمعت قيادات بيروقراطية تقليدية وحراكيين ويساريين، لإنتاج وثيقة برنامجية بعنوان ‘ تجديد الدولة الأردنية’، يبدو أن ساتلوف ـ شنيكر، لم يطلعا عليها، ولذلك، فإنهما يقرران أن الحراك لم ينتج رؤية سياسية برنامجية مكتملة.
الوثيقة التي تسلمها الملك وقيادات أساسية في النظام، ربما تُعاد قراءتها اليوم في ضوء تقرير معهد واشنطن؛ فالتقليد الأردني يقوم على تجاهل المبادرات المحلية إلى أن يتم تبنيها من قبل جهات دولية، وخصوصا أميركية. وتقترح الوثيقة، ثلاث مهمات أساسية وعاجلة لخروج المملكة من الأزمة العامة، وهي (1) إجراء محاكمات شاملة ومتزامنة لملفات الفساد على جميع المستويات، (2) تأمين مخصصات ذات وزن لإطلاق مشروع تنموي في المحافظات، (3) إرساء الأسس القانونية للمواطنة من خلال قوننة تعليمات فك الارتباط مع الضفة الغربية.
بالنسبة للبند الثاني يتحدث ساتلوف ـ شنيكر، عن زيادة الإنفاق في المحافظات. وهي وسيلة فشلت في التعامل مع الأزمة، بينما تقترح وثيقة تجديد الدولة الأردنية، خطة تنموية في المحافظات، تتم بعقول وسواعد أبنائها، وتعتمد على إحياء الاقتصاد الريفي وتحديثه، والشروع في استثمارات حرفية وصناعية متعاضدة قادرة على خلق فرص عمل لا تزيد كلفة الواحدة منها عن خمسة آلاف دينار وليس خمسين ألفا كما تقترح وزارة التخطيط.
أما البند الثالث، فقد تجاهله تقرير معهد واشنطن، الذي لا ينظر إلى الشرق أردنيين كجماعة اجتماعية وطنية لا تريد فقط الحفاظ على هويتها من بين هويات أخرى، وإنما تصر على وحدة الهوية السياسية الأردنية للمملكة، وتفضل حكما دستوريا نزيها على إصلاحات ليبرالية ذات أهداف تفكيكية، واخضاع المواطنة لسيادة القانون. وهذا البند، الثالث، هو الذي يلحم المنشقين في كتلة تاريخية قادرة على إعادة بناء الدولة ؛ ولذلك، فهي تتعرض لأربعة معيقات داخلية فاعلة هي (1) المخاوف المفهومة من قبل أوساط مختلفة داخل النظام، (2) العصبيات العشائرية المصطنعة وغير المصطنعة التي تفتّ في عضد وحدة الجماعة الوطنية الأردنية، (3) الضغط الاخواني السلفي لتجاوز أزمة الهوية الوطنية من خلال اقتراح هوية وهابية مشتركة، (4) المجموعات الليبرالية التوطينية.
بدلا من اقتراح ساتلوف ـ شنيكر، لزيادة التدفق المالي الخارجي كحل أساسي للأزمة، تقترح وثيقة تجديد الدولة الأردنية، حلا اجتماعيا لأزمة المالية العامة، يقوم على صيغة أردنية من الديموقراطية الاجتماعية: وقف كل أشكال الدعم مقابل الراتب الاجتماعي للموظفين المدنيين والعسكريين والمتقاعدين، واعتماد ضريبة تصاعدية وشاملة على الدخول والأرباح، وإعادة السيطرة الدولتية على القطاعات الاستراتيجية في إطار مفهوم جديد للقطاع العام، يقوم على القيادة وليس المُلكية والإدارة.
لحل مشكلة فاتورة الطاقة، يقترح ساتلوف ـ شنيكر، مشروعا ساذجا من الناحية السياسية، للتزوّد بالغاز من إسرائيل، بينما الواقعي هو مشروع أنبوب نفط البصرة ـ العقبة، الموقع فعلا مع العراق. وإذا كنّا نوافقه على عدم جدوى الانفاق الدفاعي على الطيران، فإن الإقترح العملي للدفاع عن الأردن يكمن في بناء منظومة صاروخية يمكن تصنيع جزء كبير منها في البلاد، مما يخلق، أيضا، فرصا جديدة للعمل.
لا يمكن ل ساتلوف ـ شنيكر، كما هو مفهوم تماما، أن يقترحا تنويع الخيارات الأردنية في العلاقات الدولية، بما يشمل الصين وروسيا وإيران، وهما يقدما توصيات من شأنها إدامة العلاقات الأردنية ـ الأميركية والأردنية الإسرائيلية، في حين تسعى الجماعة الوطنية الاردنية إلى صيغة استقلالية للعلاقات الخارجية متعددة المسارات، لكنها تستثني إسرائيل.
(العرب اليوم)