عندما سقط النظام الملكي في العراق، في العام 1958، كانت هناك سورة غضب، معروفة الأسباب، في عمان؛ حينها نهض القائد وصفي التل، وخاض معركة سياسية عنوانها: فلنطو صفحة الماضي، ولنذهبْ إلى المستقبل.. لا غنى للأردن عن عمقه العراقي، سياسيا وأمنيا واقتصاديا واستراتيجيا ؛ ووقتها استجاب الراحل الملك حسين إلى رؤية التل، وشيئا فشيئا استعاد البلدان علاقاتهما التي ظلت خيارا استراتيجيا أردنيا من العهد الملكي إلى العهد الجمهوري إلى العهد القومي إلى العهد البعثي، ثم صعدت، في مرحلة الراحل صدام حسين، إلى الذروة، قبل أن يقطعها الاحتلال الأميركي في العام 2003.
زال الاحتلال، فالتفتت بغداد إلى الأردن، بوصفه نافذة العراق، وضاقت الدنيا بعمان، فالتفت إلى العراق، وبدأت العلاقات تسير في الاتجاه المطلوب، وبدأت ـ وإنْ اقتصادية ـ في مستوى استراتيجي عنوانه مشروع انبوب نفط البصرة ـ العقبة، المشروع الذي سيحرر الاقتصاد الأردني من أعباء فاتورة الطاقة، ويحرر الحكومة الأردنية من ترجّي المساعدات؛ فالمشروع سيموّل الخزينة الأردنية بما يقرب من ثلاثة مليارات دولار سنويا.
وهذه فاتحة فقط لمشاريع تنموية كبرى يحتاجها العراق والأردن معا. وبطبيعة الحال، فإنه من غير الممكن أن تزدهر العلاقات الثنائية بين البلدين الشقيقين اقتصاديا، من دون سياق من العلاقات السياسية والتفاهمات.
إلا إن الغيوم السود برزت في سماء هذا المسار؛ فمن الواضح أن القوى الخليجية المعنية بدعم من الولايات المتحدة، تزعجها عودة التحالف الأردني العراقي، أولا لأنه يحرر الأردن ماليا وسياسيا، وثانيا لأنه يفك العزلة الخليجية والمذهبية عن النظام العراقي الجديد.
الحادثة الغامضة بين أردنيين وعراقيين من الطينة نفسها، تبدو لي مفبركة ومحضرة من قبل فئة سياسية تدعي الولاء للرئيس صدام حسين الذي لو كان حيا لما قبل بما آل إليه بعثيو العراق من انخراط في مشروع خليجي أميركي لإثارة الحرب الأهلية المذهبية في البلد الشقيق. ولعل هؤلاء ينسون أن الرئيس صدام وهب حياته لمقاتلة ذلك الحلف الامبريالي الرجعي؛ فهل كان يقبل بأن يتحول حزبه إلى تنظيم هامشي من تنظيمات القاعدة، يحرّض مذهبيا ويرسل المفخخات إلى الحسينيات، ويقتل المدنيين، ويمنع العراق من المصالحة والنهوض؟
يمكننا أن نقول أي شيء بحق رئيس وزراء العراق، نوري المالكي، سوى أنه، شئتم أم أبيتم، رفض الخنوع للأميركيين، ورفض بقاء جندي أميركي واحد على أرض العراق، ويعكس سلوكه السياسي إزاء القضية السورية والمقاومة ، كما إزاء الأردن، وصراعه مع الخليجيين والأتراك، حقيقة خروج العراق من الاحتلال إلى الاستقلال. وهذا هو ما يدفع واشنطن وحلفاءها في المنطقة، لإثارة الفتنة المذهبية والتحريض على تقسيم العراق، ومنع نهوضه.
لا يزاودنّ عليّ أحدٌ في صدام حسين؛ فقد شلتُ قضيته ورفعت اسمه وكتبت عنه أجمل النصوص، واصطدمت، دفاعا عنه، مع قوى محلية وعربية. حدث ذلك، حين كان البعثيون الأردنيون يرتعدون هلعا مختبئين وعاجزين عن التلفّظ باسم القائد… والآن يستخدمون اسمه ورايته لتحقيق مآرب أعدائه الامبرياليين والرجعيين. حتى إيران التي قاتلها صدام، دعاها في عز مواجهته مع أولئك الأعداء، للتفاهم والتحالف. وقتها رفضت طهران، لكن سلوكها اليوم مختلف، فهي أدركت أنها لا تستطيع الحفاظ على مشروعها القومي من دون الإخاء العربي ـ الإيراني.
لكن، قبل ذلك وبعده، ما يهمني، أولا وثانيا وثالثا وألفا، هو المصالح الوطنية العليا للدولة الأردنية التي ليس لها حليف ممكن وجدي وقادر على اسناد البلاد من دون شروط سياسية، سوى العراق. وعَتبي ليس على تلك الفئة التي لم نعد نعرف خطوط ارتباطاتها السياسية والمالية، انما غضبي على الأوساط الرسمية التي يبدو أنها تشجع على تخريب علاقاتنا مع بغداد. فلمصلحة مَن؟
مدهش أن هناك في الحكم وخارجه من يستخذي أمام القوى المعادية، تحت ذريعة المصالح الأردنية… ثم ينسى هذه المصالح كليا عندما تريد الدوائر الامبريالية الرجعية. وأخيرا، فإنني أسأل ، ماذا لو كان الأمر مرتبطا بالسفارة الإسرائيلية بعمان؟ هل كنتم ستحققون وتحرّضون ؟ وهل كانت تلك الفئة تجرؤ؟
(العرب اليوم)