أوان الخروج من فوضى المالية العامة

في احتفالات مكتبية أنيقة، تنقلها الصحافة، تُزَفّ البشرى للمواطنين بتوقيع اتفاقية منحة مالية أو قرض سهل، وكأنهما فتح مبين أو كأن حصيلتهما سوف يجري توزيعها على الناس أجمعين، أو كأن الفرج جاء من حيث لا نحتسب؛ ليست كل منحة ذات جدوى، وليس كل قرض ضروريا. أغلبية المنح، في الواقع، تكلفنا أكثر مما نحصّله منها، وترتب علينا أعباء مالية نحن في غنى عنها، ويتم إنفاقها على مشاريع ليست ذات جدوى أو ذات أولوية. القروض السهلة المرتبطة بمشاريع محددة من النوعية السابقة نفسها، أسوأ، لأنها ـ بالإضافة إلى ما تكلفنا إياه من أموال إضافية لمشاريع بلا معنى ـ تضخّم المديونية والتزامات الأقساط والفوائد. وهناك قروض موقّعة، ويجري تسديد فوائدها، بينما هي مجمدة بسبب أن المشروع المعني، متعثر أو حتى بسبب الإهمال البيروقراطي.
هناك فوضى مالية وتسيّب في مجال المنح والقروض؛ فإذا أرادت الدولة معرفة حجم مديونيتها الخاصة بالحكومة المركزية والهيئات والمؤسسات، فهي تحتاج إلى إحصاء شامل ومراجعة مدققة. وأكبر جهات الفوضى المالية في المنح والقروض، هي وزارة التخطيط التي تتبع عقيدة الاقتراض و الإنفاق خارج أي خطة تنموية فعالة؛ فهي تسعى وراء المنح والقروض ـ كدينامية أساسية في عملها ـ من دون أي تبصّر بالجدوى أو الأولوية أو الكلفة الاكتوارية للمشاريع. والمؤسف أن هذه الوزارة التي تمثل قلعة الليبرالية الجديدة ـ هي التي تقرر، في النهاية، اتجاهات الاستثمار المغطاة بمنح سياسية كالمنحة الخليجية ـ البالغة لهذا العام مليارا وربع المليار ـ سوف يتم هدرها من دون إحداث فارق تنموي أو تلبية الأولويات.
لن أسترسل؛ إنما، بالمحصلة، هناك تسيّب في المالية العامة، هو المسؤول، جزئيا، عن تضخم المديونية العامة والعجز، ولكنه يكاد يكون المسؤول الأساسي عن احتراق الموارد المالية عبثا وضياع فرص التنمية. فما الحل؟

لاكتشاف الحل، علينا أن نلاحظ أنه، بمقابل الفوضى المستشرية في السياسة المالية، فإن البلاد تتمتع بانضباط مرموق في السياسة النقدية. ويعود ذلك إلى أن الأخيرة تخضع لمؤسسة سيادية مستقلة وتضبط عملها وفق معايير نقدية صارمة، وتتبع سياسات متحررة من الضغوط الحكومية وغير الحكومية، هي البنك المركزي.
وعلى هذه الخلفية، يقترح رجل دولة ضليع في هذا المجال، إنشاء صندوق سيادي مستقل للمالية العامة مواز للبنك المركزي، يقوده محافظ مسؤول، ويتبع معايير وإجراءات مالية صارمة، ويبني سياساته، سواء لجهة الاقتراض أو اتفاقيات المنح أو تخصيص الأموال للمشاريع والخطط التنموية، وفق تلك المعايير والإجراءات، بما في ذلك دراسة الجدوى والكفاءة والضرورات والأولويات والعائد التنموي والحسابات الاكتوارية. ولا يخضع الصندوق السيادي للمالية، بالطبع، وفقا لقانونه المأمول، للضغوط الحكومية أو سواها، وتنحصر به، وحده، عمليات الاقتراض وقبول المنح والموافقة على المشاريع الرأسمالية والمخصصات المالية المتعلقة بها. اقتراح ينبغي أن يكون على رأس جدول الأعمال الحكومي والبرلماني.

العرب اليوم

Posted in Uncategorized.