مهما كانت نتائج الانتخابات النيابية، فإن الشيء الوحيد المهم فيها هو النزاهة والشفافية والانضباط. معنى ذلك أن النتائج تعكس موازين القوى الاجتماعية والسياسية الفعلية في ظل عاملين سلبيين هما (1) استنكاف جمهرة السياسيين الجادين والمثقفين عن خوض غمار المعركة الانتخابية، (2) والتفاوت الكبير في القدرة المالية للمرشحين والقوائم. بصراحة ليس البرلمان المتوقع مؤهلا لاختيار وتشكيل أول حكومة برلمانية في البلاد منذ 1956، لكن لا بد من المضي في السيناريو الإصلاحي حتى النهاية؛ فليختر النواب، بحرية كاملة، رئيس الوزراء المقبل، وليخض الرئيس المكلّف مشقة التفاوض مع الكتل النيابية والنواب المستقلين، ولتتشكل حكومة برلمانية بالمعنى الحرفي للكلمة.
عندها سيكون لدينا تجربة متكاملة؛ انتخابات حرة ونزيهة وبرلمان ذو صلاحيات سياسية، على أن تكون تشكيلة مجلس الأعيان انعكاسا للتوازنات النيابية. هنا ستكون البداية لا النهاية؛ (1) سيدرك السياسيون الذين استنكفوا عن المعركة الانتخابية، بأنهم أصبحوا خارج العملية السياسية، وسيباشرون، فورا، وتحت ضغط شبح العزلة، إلى تكوين تجمعات وأحزاب وتيارات تتحضر للمرحلة التالية، (2) وسيدرك المثقفون أنهم أمام فرص جدية للمشاركة السياسية، خارج لعبة اللوبيات، وسيبادرون إلى الانخراط في النشاط السياسي، (3) وسوف تتفكك المعارضة الإخوانية وحلفاؤها تحت ضغوط نجاح العملية السياسية، وشعور أوساط واسعة منها بضرورة النزول عن شجرة الإخوان المسلمين، (4) وسوف تأخذ أحزاب المعارضة الأخرى وجودها على محمل الجد، وتباشر تغييرات في طبيعة نشاطاتها بما يدمجها في العملية السياسية، (5) وأخيرا، فإن الذين يملكون الموارد الكافية للعمل السياسي والانتخابي، لن يستمروا في حبس هذه الموارد عن الاتجاهات السياسية التي يؤيدونها.
مهما كانت نوعية النواب الفائزين، فإنني سعيد بتوليهم الشأن السياسي كله؛ لعل أولئك الذين تحصنوا في أبراجهم العاجية أن يدركوا أنهم لن يغادروها إلا بالنشاط السياسي الميداني. الدرس المطلوب هو رسوخ حقيقة أن المنصب الحكومي والتأثير السياسي، لم يعودا ممكنين خارج الميدان الحزبي. وهذه هي نقطة التحول المركزية في التغيير السياسي.
أزعم أن أغلبية السياسيين ـ حتى المقربين من النظام ونخبة الدولة ـ لم تتحصل على قناعة أكيدة بأن الانتخابات ستكون مضبوطة إلى هذا الحد، كما لم تكن لديهم القناعة بأن الملك سيبادر إلى التنازل عن صلاحياته في التشكيل الحكومي لمجلس النواب. وقد تجلى غياب الثقة هذا في ممارسات رجال الدولة الفعلية التي يمكن وصفها بأنها ‘مقاطعة موالية’ ، مؤمنين أن حصتهم ستظل محفوظة. لحظة التغيير المفصلية الآن هو نزع هذا الايمان من قلوبهم، ووضعهم خارج العملية السياسية حتى الانتخابات المقبلة.
العرب اليوم