‘ جادتْ به شهقاتُ الغيم فانسكبا … ‘… كذلك هو حبيب الزيودي، وكذلك بدأ قصيدةً أولى في التأريخ الإبداعي لرموز الحركة الوطنية الأردنية، مع أوّلهم، بطل انتفاضة 1923 وشهيدها، صايل الشهوان الذي كان يطيب لشاعر الأردن، مصطفى وهبي التل، أن يُقسِمَ بدمه:’ قَسما بماحص والفحيص وبالطفيلة والثنيّة / ودم ابن شهوان الزكيّ ومصرع النفس الأبيّة’، لكنه، أي عرار، كان يحيل إلى بطولة متداولة لدى الأردنيين، طازجة الحضور في وجدانهم الجمعي، فلم يرو الحكاية، حتى جاء الزيودي، بعد سبعين سنة من لحظة الثورة، ليفخر ‘ أولئك الصيدُ آبائي، وما عرفتْ/ قصائدي بعدهم أهلا ولا نَسَبا/ نادتْهمُ الأرضُ فامتدوا بها شَجَراً/ وأوجَبوا لنداءِ الأرضِ ما وَجَبا ‘. وهو، بذلك، يبرأ من كل نسب غير نسب الحركة الوطنية، بجذورها الصلبة الممتدة في أعماق الكيان الاجتماعي الثقافي للبلد وأغصانها الوارفة من نمر العدوان إلى عرار إلى وصفي إلى حابس المجالي إلى تيسير سبول إلى الرفيق الشهيد حمدان الهواري والقلب الذي يخفق لليسار و’للهنود الحمر’ و’السهم في جرح الغزال’.
أظنّه حين كتب قصيدة وصفي، لم يحتمل أن يهاتفني، كعادته حين تتهادى في روحه قصيدةٌ جديدة، انخطف إليّ ولم يقل مرحبا، بل خاطب الشهيد: ‘ يا مْغلّيَنْ أرضنا ومْرخّصَنْ دمّكْ/ السنديان استندْ ع اجبالنا وضمّكْ’ ! وأحسستُ، لحظتها، بحنين يأخذني لجبال السلط التي أُحبُّ… وعبق التراب والمطر والسنديان..
عاميّة حبيب الحورانية المثقّفة هي واحدة من أهم انجازاته الابداعية؛ حرّرها من الجهوي والمحليّ، وأطلق ما في لهجتنا من جماليات شعرية وغنائية، وامتلكها روحا وجذوةً وموسيقى، وأخضع الفصحى لمنطقها الطالع من وجدان الشعب، في قصائده الفصيحة.
شُغِفَ حبيب بالعامية والشعراء الشعبيين، وكان يلهمني المسرات والدهشة في تنقيباته عن لحظات الإبداع في الشعر النبطيّ القديم، وفي شعر مَن يصطحبهم من شعراء الشعب لزيارتي. هل كان يدرك ما ينجزه، على المستوى الاجتماعي الثقافي الوطني، بتطويره العامية والاحتفال بها وتحويل شعراء النبطي المهمّشين إلى حركة ؟ أظنه، على نحو ما، تلمّس البعد السياسي لنشاطه الأدبي العاميّ في مواجهة مؤسسة أدبية منشقة عن تراثها ومجتمعها ووطنها. ومن جهتي، فلطالما حرّضته ليصبح شاعرا عاميا محضا، حيث تغدو القصيدة قادرةً على تبرير ذاتها بذاتها، ويغدو الشعر أداة لتوحيد الوجدان الوطني، أي أداة سياسية، من دون أن تتورّط في خطاب سياسي.
أكرّر: لا تجود المجتمعات ـ إلا قليلا ـ بشعراء كبار يعبرون، بموهبة عالية، عن روحها وثقافتها ووجدانها ونبضها، وربما كان ذلك يحدث وفق قانون اجتماعي أدبي معقد من التراكم السياسي والابداعي عبر عقود، يظهر، نوعيا، في شاعر واحد. في بلدنا، أنتج المجتمع الأردني المتشكل من استقرار العشائر نصف البدوية نصف الفلاحية ونشوء إمارة البلقاء في أواخر القرن 17، شاعرا كبيرا عبّر عن تلك اللحظة التاريخية هو نمر العدوان، ثم حدث انقطاع طويل حتى ولادة الدولة الأردنية التي أعطتنا شاعرا كبيرا آخر هو مصطفى وهبي التل ( عرار)، وتراكمت الإشعاعات الإبداعية للخمسينيات والستينيات في الشاعر الأردني الكبير الثالث، تيسير السبول، ثم جادت علينا السبعينيات، بالشاعر الكبير الرابع أمجد ناصر، والثمانينيات بشاعرنا الأخصب موهبة بينهم جميعا، حبيب الزيودي. وكم كنت أودّ أن يطلع على رأيي هذا في حياته، مكتوبا، لكنني كنتُ أتحاشاه لأسباب انتهت الآن برحيله. نعم .. حبيب الزيودي هو أهم شاعر أردني منذ تأسيس إمارة البلقاء.
العرب اليوم