قرأتُ للصديق محمد داودية، رأيا في الحراك الشعبي الأردني، أنه ‘ راشد’ سياسيا، وأن له انجازات منها إعدام الفساد معنويا. وهذا تقويم إيجابي شامل صادر عن مراقب من بعيد، معاكس لما قاله مراقب بعيد آخر، هو الدكتور مصطفى حمارنه، على التلفزيون الأردني، من أن الحراك دخل في الحيط’ وتحول إلى الشتيمة السياسية بدلا من البرامج السياسية.’
أدعو إلى نقاش جدي بين المثقفين ـ على أن يكون محايدا ونزيها ـ حول أهم ظاهرة اجتماعية سياسية ثقافية شهدها الأردن منذ 1989، أعني ظاهرة الحراك. وأسمح لنفسي من واقع التجربة الميدانية الحثيثة ، منذ 2010، في نشاطاته الجماهيرية والسياسية والفكرية، أن أضع، بين أيدي المهتمين بذلك النقاش، الملاحظات التالية:
أولا، ليس الحراك تلك المجموعات من الشباب الذين يواظبون على التظاهر الأسبوعي في العديد من المحافظات، وإنما هم ملمح من ملامحه وجزء من تكوينه الذي يشتمل على آلاف الفعاليات المتنوعة التي شهدتها البلاد خلال السنوات الثلاث الماضية، وعبرت عن اقتحام قوى اجتماعية جديدة، متعددة المواقع والمصالح والمطالب والرؤى والأفكار، لفضاء السياسة.
والمشكلة الآن، أنه، بمناسبة الانتخابات النيابية، تستعد القوى الاجتماعية القديمة الرجعية المهزومة معنويا إلى إعادة احتلال ذلك الفضاء السياسي مجددا، مستخدمة نفوذها وثرواتها. وهو ما يلقي على عاتق قوى الحراك، الاستعداد ـ بالمقابل ـ لخوض المعركة الانتخابية بروح المقاومة، كما يلقي على عاتق المثقفين والتيارات الوطنية الإصلاحية من رجال الدولة وقيادات المجتمع، واجب تقديم الدعم السياسي والمعنوي والمالي لتمكين القوى الشعبية من المنافسة.
ثانيا، لكي ندرك جديا حجم التغييرات التي استطاع الحراك إنجازها، علينا أن نعود إلى العام 2009 / 2010، لنسأل: هل كانت التعديلات الدستورية، حينها، ممكنة؟ هل كانت الهيئة المستقلة للانتخاب أو الدائرة الانتخابية الوطنية، واردتين؟ وماذا عن نقابة المعلمين والنقابات المستقلة والحق في التظاهر السلمي والاجتماعات وحرية الكتابة والنقد والنقاش وتأسيس اللجان الشعبية، والأهم من ذلك كله: هل كان الاعتراف بحق الشعب في ممارسة السياسة، على جدول الأعمال؟
لقد فرض الحراك ما أسميه الديموقراطية المضادة أي الديموقراطية من القاع. وهي وضعية سياسية جديدة لم يعد ممكنا التراجع عنها.
ثالثا، غير صحيح إطلاقا أن الحراك بلا برنامج سياسي. ويمكن للباحث المنصف أن يستقصي شعارات الحراك وبياناته لكي يتوصل إلى المحاور البرنامجية الحراكية، وفي مقدمتها المحور الاجتماعي، وخصوصا استئصال الفساد الكبير. وقد شغل التصدي للفساد أكثر من 60 بالمئة من جهود الحراك. هنا حدث نجاح جزئي وفشل جزئي. تمثل النجاح بما قاله داودية من إنجاز الإعدام المعنوي للفساد والفاسدين. وهذا مهم جدا في عملية نضالية طويلة وشاقة. لكن، بالمقابل، تمثّل الفشل في عدم القدرة على إجراء المحاكمات الشاملة والمتزامنة للفاسدين أو في استرداد أموال الدولة. وربما كان العنف اللفظي ناجما بالضبط عن هذا الفشل.
ونجح الحراك في إشاعة ثقافة معادية لنهج النيوليبرالية المتوحشة والخصخصة التي تحكمت بالسياسات والقرار، وتأكيد مطلب استعادة القطاع العام الاقتصادي، والشروع في خطة تنمية وطنية في المحافظات بعقول وسواعد أبنائها أما تحويل هذه الخطوط البرامجية إلى خطط عيانية فنية، فهذه مهمة المثقفين. وبالنسبة لي، فقد قدمتُ مطالعات عديدة في هذا الشأن، وما زلتُ آمل أن أرى جهودا أخرى في هذا المجال، وحوارا بين هذه الجهود، بدلا من التجاهل والإنكار.
في المحور السياسي، طالب الحراك بالحريات الحقيقية؛ حرية تأسيس النقابات وحرية النضال الطبقي وحرية الرأي والاجتهاد وحرية الاعلام وحرية التظاهر الخ. ورغم ما حصل ويحصل من محاولات لتضييق مساحة الحريات المنتزعة، فقد أصبح الانجاز راسخا ولا يمكن تجاوزه.
وفي المحور الوطني، أعاد الحراك تعريف إسرائيل كعدوّ، وأحيا الوطنية الأردنية ومشاعر الاعتزاز الوطني والثقة بالذات، واعتبر الحراك ـ وهنا موضع رشده ـ الدولة والجيش خطا أحمر. وسعت تيارات أساسية في الحراك إلى تقديم حل ديموقراطي لمشكلة الهوية والمواطنة من خلال تضمين تعليمات فك الارتباط مع الضفة الغربية في قانون الجنسية، وإخضاع التجنيس، بالتالي، لسيادة القانون والحيلولة دون الوقوع في المشاريع الأمريكية الإسرائيلية للكونفدرالية والتوطين الخ.
الحراك، إذاً، هو حراك مجتمع بقواه وتياراته المتعددة. وهو جماع عدد كبير من الفعاليات البالغة التنوّع والأفكار. ولا يمكن لأحد احتكاره أو تلخيصه بمظهر جانبي من مظاهره. والمهم أن الحراك ـ بمعناه الشمولي المعبر عن ضرورة تجديد الدولة الأردنية ـ ما يزال في بداياته.