بعد 18 عاما .. ” وادي عربة” على بساط البحث

عمون – وقعت المملكة معاهدة وادي عربة في مثل هذا اليوم قبل 18 عاما في ظروف قلقة للغاية، استشرت فيها المخاوف من قيام تحالف فتحاوي إسرائيلي يؤدي إلى إضعاف الأردن والتمهيد لقيام الوطن. ولذلك، كانت عمان تريد من وراء المعاهدة تحقيق هدفين، أولهما هو تسهيل إقامة دولة فلسطينية حسب أوسلو وثانيهما هو اعتراف الإسرائيليين بالدولة الأردنية. ومن أجل تأمين تحقيق هذين الهدفين، قدم المفاوضون الأردنيون تنازلات جمة في الحقوق الأردنية الصميمة في الأرض والمياه واللاجئين والسيادة.الآن، بعد ما يقرب العقدين من اقتراف ذلك الخطأ الاستراتيجي، تبين أن الهدفين الذين تنازلنا عن حقوقنا من أجل تحقيقهما، أصبحا بعيديّ المنال، فالدولة الفلسطينية المستقلة لم تعد على جدول الأعمال، بينما ما يزال الإجماع الإسرائيلي منصبا على حل القضية الفلسطينية على حساب الكيان الأردني. وهو ما يجعلنا نتوقف للبحث فيما قدمناه من تنازلات، آن الأوان للعمل على استردادها كاملة غير منقوصة، آخذين بالاعتبار حقيقتين أولهما أن الدولة الفلسطينية هي مهمة غير ممكنة خارج النضال الفلسطيني والعربي، وثانيهما أن كيان الدولة الأردنية لا يحتاج إلى اعتراف من الإسرائيليين أو سواهم، وإنما كيان دولتنا رهن بالإرادة التاريخية للحركة الوطنية للشعب الأردني. وهي حركة قامت واشتد عودها، وأصبحت عصية على التجاوز سواء من إسرائيل أم من الولايات المتحدة وحلفائها.
قبل عقدين كان العالم قد وقع أسير الواحدية القطبية للولايات المتحدة، أما اليوم فنحن نسير نحو التعددية القطبية ونحو عالم جديد لم تعد واشنطن هي التي تتحكم به، بل تحولت إلى قوة عظمى بين قوى عظمى هي روسيا والصين وحلفائهما في دول البركس البرازيل والهند وجنوب أفريقيا. وعلى المستوى الإقليمي، نشأ ميزان قوى جديد يحد من قوة إسرائيل لصالح التحالف الإيراني العراقي السوري مع حزب الله الذي تحوّل جدارا استراتيجيا في مواجهة العدوانية الإسرائيلية.
كل ذلك وسواه، يدفعنا إلى وضع معاهدة وادي عربة مجددا على بساط البحث اليوم لاسترداد ما خسرناه قبل 18 عاما. وهو كثير سأستعرض بعضه تاليا:

تزيد الأراضي الأردنية المحتلة ‘ قانونيا’، اليوم ـ سواء مباشرة أو بمنح المحتل حقوق التملك والاستثمار فيها بموجب معاهدة ‘ وادي عربة’ـ عن مساحة قطاع غزة! إلا أن أهميتها القصوى، بالنسبة للأردن، تتجاوز المساحة والاعتبار الوطني والسيادي إلى صلتها بتآكل الحقوق المائية الأردنية، المغصوب معظمها أصلا. وهو ما يجعل من المعاهدة الأردنية ـ الإسرائيلية للعام 1994، مزدوجة الإساءة إلى كرامة الأردن ومصالحه في آن.
إلى ذلك، كرست ‘ وادي عربة’، سياسات توطين اللاجئين والنازحين، وألغت حق العودة، مما عرّض ويعرّض البلاد إلى مخاطر الانشقاق الأهلي، ويهدد بنقل الصراع الديموغرافي السياسي من غربي النهر ـ مع الكيان الصهيوني ـ إلى صراع داخلي، شرقيه. وأصبح هذا التنازل الذي قدمه مفاوضو ‘ وادي عربة’، التحدي الرئيسي أمام استحقاق الانتقال الديموقراطي في الأردن .
وأخيرا، وليس آخرا، فإن الأضرار التي لحقت بمنظومة الدفاع الوطني الأردنية، بموجب ‘ وادي عربة’، كشفت البلاد أمام العدوانية الإسرائيلية، وحاصرت حرية قرارها السياسي والتنموي.
لكلّ ذلك، لا تعترف الحركة الوطنية الأردنية بمعاهدة ‘وادي عربة’، وينادي الحراك الشعبي بإسقاطها. لكن اسقاطها يظل بلا معنى إن لم يرتبط بتوفر إرادة وشروط المقاومة لاسترداد الحقوق الوطنية المكرّس اغتصابها في المعاهدة، كالتالي:

أولا ،الأرض : تخلى الجانب الأردني، مسبقا، عن المطالبة باستعادة بلدة ‘أم الرشراش’ على خليج العقبة والتي احتلها الإسرائيليون، العام 1949، أي بعد الهدنة، وفي خرق واضح لها، وأقاموا فيها ميناء ‘ إيلات’ الذي ما فتيء أن توسع على حساب المياه الإقليمية الأردنية لاحقا .
يحدّد أطلس المركز الجغرافي الأردني ( مؤسسة تابعة للقوات المسلحة ) الصادر عام 1983 ـ والذي سُحب من التداول بعد المعاهدة العام 94 ـ خرائط الأراضي الأردنية المحتلة من قبل ‘ العدو الإسرائيلي’، بدءا بالخريطة رقم (1) ‘خريطة منطقة الاحتلال في خليج العقبة’. ويقول النص المرفق بها والذي كان يمثّل الموقف الرسمي في حينه : ‘ تبيّن الخريطة أن خط الهدنة عام 1948 يقع في الطرف الشمالي الغربي من خليج العقبة، وقد ضمنت اتفاقية الهدنة هذا الخط ، ولكن إسرائيل إحتلت الموقع الحالي والمبين في الخريطة، بحجة أن الحد الفاصل بين فلسطين وشرق الأردن في عهد الإنتداب كان يمثله هذا الخط . وبذلك تكون إسرائيل قد خرقت إتفاقية الهدنة، ولم تكتفي بذلك؛ إذ أن المنطقة المخصصة لرسو السفن في ميناء إيلات تتعدى لتشمل مياها إقليمية أردنية صميمة. وإذا اعتبرت العوامات التي تضعها إسرائيل في خليج العقبة، فاصلا بين المياه الإقليمية الأردنية ـ الإسرائيلية ، فإن هذا يعني تقليص المياه الإقليمية الأردنية باتجاه الجنوب ليصبح عرضها صفرا، وهو ما تبينه الخريطة ‘ (انتهى)
وقد انطلق مفاوضو ‘وادي عربة’ من الإعتراف بالحجج والوقائع التي فرضها الاحتلال الإسرائيلي، متنازلين، رغم الدستور، عن أراض وطنية ومياه إقليمية، وعن المدى الجغرافي الطبيعي للمنفذ البحري الوحيد للبلاد، وعن الإتصال الجغرافي مع مصر. وتشكّل هذه التنازلات المسبقة كارثة استراتيجية وتنموية وأمنية.
على أن المفاوضين الأردنيين لم يتمسكوا بالسيادة أو حتى بالمساحات الأراضي الأردنية المحتلة في منطقتي الاحتلال موضع التفاوض؛ في الباقورة ( شمالا) ووادي عربة (جنوبا))
يقول أطلس المركز الجغرافي الأردني (1983) رفقة خريطة رقم 2 ‘الاحتلال في الباقورة’، ما يلي : ‘عينت الحدود بين شرق الأردن وفلسطين إبان الإنتداب البريطاني، واعتبر نهر الأردن حدا فاصلا بين القطرين، ونهر اليرموك حدا فاصلا بين الأردن وسورية. إلا أن اليهود احتلوا المنطقة الواقعة في الجانب الأردني عند ملتقى نهر الأردن ونهر اليرموك في غرب الباقورة والتي بلغت مساحتها 1390 دونما .ويبدو واضحا أن إسرائيل تهدف إلى السيطرة على ملتقى النهرين، واستغلال المياه من خزان اليرموك’ (انتهى )
وقد قدم الجانب الأردني، هنا، تنازلات واسعة وغامضة وخطيرة . فقد قبل بجزء من مساحة المنطقة المحتلة من أراضي الباقورة يبلغ 850 دونما بينما تنازل للإسرائيليين عن 540 دونما. وعلى القاريء الإنتباه إلى أن مئات الدونمات، هنا، ليست مجرد كمّ مساحيّ، وإنما لها أهمية استراتيجية فيما يتصل بالحقوق المائية الأردنية في نهري الأردن واليرموك.
لكن الأسوأ هو الثمن الذي دفعه الأردن لقاء الإستعادة القانونية وليس السيادية أو الفعلية على تلك ال850 دونما، والمتمثل في قبول الجانب الأردني بعدم ممارسة أي لون من ألوان السيادة الحدودية أو القانونية أو الضريبية أو الشرطية على الأرض ‘ المستعادة’ التي تم إخضاعها ل ‘ نظام خاص’ يسمح بحقوق تملك واستعمال وإقامة ودخول وخروج الإسرائيليين وشرطتهم وموظفيهم الخ الى المنطقة من دون قيود، وتمنع المواطنين الأردنيين ، بالمقابل، من الدخول أليها إلا بتصاريح ، وتجمد سيادة القوانين والمحاكم الأردنية كليا فيها.
ويظل الأخطر هو حدود منطقة ‘ النظام الخاص’ التي تخطت الأراضي ‘المستعادة’ إلى أراض لم تكن محتلة سابقا، لكن تم إخضاعها لشروط النظام الخاص بمنطقة الباقورة / نهاريم وفق الملحق ( 1/ب) لمعاهدة 1994 والتي ظل تعيين حدودها، سريا وغامضا ، ولكنه يشمل، على الأقل، الأراضي التي كانت مخصصة، قبل قيام دولة إسرائيل، لشركة كهرباء فلسطين ( مشروع روتنبرغ ) في الموقع الذي يسميه الإسرائيليون ‘ نهاريم’. وهي أراض أردنية صميمة لم تكن محتلة ولكنها موضع مطالبة إسرائيلية بحقوق الملكية ، وتبلغ مساحتها 5380 دونما. وبالمحصلة، فإن إسرائيل ـ وليس الأردن ـ هي مَن حصل على ‘حق’ و’ استعاد’ حق التملك والإستخدام لأراض أردنية وتحت مظلة قانونية تنزع عنها كل ممارسات السيادة ، بما فيها البلدية منها.
وبالنسبة للخريطة رقم 3 الخاصة ب ‘منطقة الاحتلال الإسرائيلي في وادي عربة’، يقول أطلس المركز الجغرافي الأردني (1983) ما يلي : ‘ قامت إسرائيل بعد عام 67 بتغيير خط الهدنة في وادي عربة، وزحزحت هذا الخط شرقا لمسافات مختلفة، وصلت في بعض المناطق إلى 8 كلم، بطول 128 كيلومترا. وأما المساحات التي استولت عليها إسرائيل فقد بلغت 387،4 كيلومتر مربع ‘ (انتهى)
وقد تم الإتفاق بصدد هذه المنطقة على تسوية إعادت قسما منها إلى الأردن مقابل التخلي عن الحق في الممارسات السيادية الأردنية عليها، بما في ذلك منح المستوطنين فيها حقوق الاستئجار والاستثمار الخ
والسائر في طريق البحر الميت ـ العقبة ، يلاحظ المزارع الإسرائيلية الغنّاء في الوادي ، ويلاحظ أن الجانب الأردني غير مستغَل زراعيا إلا في حدود ضيقة ومن قبل شركات تابعة للأمن. ولا يعود ذلك إلى ظروف طبيعية؛ فالطبيعة واحدة، ولا إلى ‘كسل الأردنيين’ ، بل إلى الأفضلية الإسرائيلية في استغلال المياه الجوفية. وبالمحصلة، تخلص الإسرائيليون، في هذا البند، من أعباء حماية مستوطنيهم في وادي عربة ، وانتزعوا قوننة استثماراتهم وسرقتهم للمياه الجوفية الفلسطينية ـ الأردنية.

ثانيا، المياه : قد قدّم الجانب الأردني ، في هذا المجال، ما يُعد كارثة بالنسبة لبلد هو من أفقر عشرة بلدان في الموارد المائية:
(1) أقر الجانب الأردني بالواقع القائم من استئثار إسرائيل بكل المياه العذبة في أعالي نهر الأردن حتى بحيرة طبريا، متنازلا عن حقوقه المائية في البحيرة وفي المصادر المائية شمالها ـ وتبلغ 100 مليون متر مكعب،هي حقوق أراضي الزور الأردنية ـ وعن حوالي 5 م.م.م من المياه العذبة لإرواء الملكيات الإسرائيلية في أراضي الباقورة وعما مقداره 10 م.م.م لإرواء الأراضي المؤجرة للمستوطنين الإسرائيليين في وادي عربة. وهكذا نلاحظ أن التنازل عن السيادة على أراضي الباقورة والغمر في وادي عربة، استتبع التنازل عن حصصهما المائية . وحصل الأردن مقابل ذلك على حق تحلية 60 م.م.م من المياه المالحة جنوبي طبريا وإقرار إسرائيل بحقوقه في تصريف أوديته الداخلية! وحقوقه لدى سورية في نهر اليرموك!
(2) ورغم أن نهر اليرموك هو نهر سوري ـ أردني داخلي، وليس للأراضي الفلسطينية ـ وبالتالي الإسرائيلية ـ أي حقوق عليه، باستثناء حقوق مثلث اليرموك ومقدارها 17 م.م.م، إلا أن الجانب الأردني، ومن دون مشاركة سورية أو موافقتها،أبرم اتفاقا مع طرف ثالث بشأن الحقوق الثنائية الأردنية ـ السوريةفي اليرموك! و تنازل للإسرائيليين عن 25 م.م.م من مياه النهر، ووافق على إقامة سد تحويلي مشترك مع الإسرائيليين على هذا المجرى المائي الداخلي بين البلدين الشقيقين. وقد أدى هذا الإجراء العدائي إلى نشوب مشكلة مياه مع سورية التي لم تعد تعترف، واقعيا، بالحقوق الأردنية في اليرموك، وتقوم، بالتالي، بالسحب فوق حصتها من النهر وتخزينها في سدود محلية،
(3) اعتمد الاتفاق بين الجانبين الأردني والإسرائيلي، مبدأ الربط المائي الثنائي ، وأهم عناصره تخزين فائض المياه الأردنية الشتوية في بحيرة طبريا ـ رغم أن تخزينها محليا أكفأ وأقل كلفة ـ عبر أنابيب، واستعادتها صيفا. وتحسن المياه الشتوية العذبة نوعية المياه المستهلكة في إسرائيل التي تضخ، بالمقابل، مياها من نوعية رديئة، وغالبا، ملوثة، إلى الأردن صيفا. وهو ما فجر فضائح متكررة خلال السنوات الثماني عشرة الماضية .

ثالثا، اللاجئون : الأردن هو أكبر مستضيف للاجئين الفلسطينيين خارج فلسطين. ويعيش على أرضه حوالي مليوني لاجئ ونازح وفدوا جراء حرب 1948 وحرب 1967. ومن البدهي أن إنهاء حالة الحرب والصلح بين الأردن وإسرائيل، يتطلبان ، وفقا للشرعية الدولية وموجبات السيادة والمصالح الأردنية، القيام أولا بإنهاء الوقائع الناتجة عن الحرب، وأهمها، بالنسبة للأردن، واقعة اللجوء الفلسطيني. وقد تنازل الجانب الأردني عن حقه كدولة مضيفة وحق اللاجئين بصفتهم تلك ـ وبصفتهم مواطنين أردنيين ـ في العودة والتعويض والملكية. وقد اعتبرت المادة 8 من معاهدة وادي عربة، قضية اللاجئين والنازحين، ‘ مشكلة إنسانية’ ناجمة عن ‘ النزاع في الشرق الأوسط ‘! وأحالت البحث فيها إلى لجنة رباعية مع مصر والفلسطينيين ( بالنسبة للنازحين) و المجموعة الدولية المتعددة الأطراف( بالنسبة للاجئين ) . وقد وضعت إسرائيل اللجنتين على الرف، بينما ينفذ الأردن من طرفه الإتفاق الثنائي على ( البند ج ) القاضي ب ‘ تطبيق برامج الأمم المتحدة المتفق عليها وغيرها من البرامج الإقتصادية الدولية المتعلقة باللاجئين والنازحين ، بما في ذلك المساعدة على توطينهم’ . وهكذا نلاحظ أن معاهدة وادي عربة تنص على التوطين صراحة، ولا تذكر حق العودة والتعويض إطلاقا، وتؤكد ‘الطابع الإنساني’ وليس السياسي للمشكلة، وتحدد المسار الاقتصادي والتوطين لحلها.

تشكل قضية اللاجئين والنازحين، مشكلة رئيسية لقضايا الهوية والمواطنة والديمقراطية والتنمية في الأردن، وتمثل سياسة التوطين قنبلة موقوتة تهدد إستقرار ووحدة البلاد. ومما يثير التساؤل قبول الجانب الأردني بالتعامل معها بهذا القدر من الخفّة في معاهدة دولية. غير أن الخفّة والتنازلات المعيبة والغموض تميّز كل حرف في معاهدة ‘وادي عربة’ التي أُلحقتْ بعشرات الاتفاقات التفصيلية حول التعاون الثنائي في كل المجالات الممكنة ، القائمة والمستقبلية. وهي اتفاقات سمحت لإسرائيل بإحداث اختراقات جرى صدّها من قبل المجتمع مبكرا، باستثناء العلاقات الثنائية الرسمية.
ويظل أسوأ ما في معاهدة ‘ وادي عربة’، تخلي الجانب الأردني، ومن طرف واحد، عن منظومته الدفاعية إزاء إسرائيل، بما في ذلك تفكيك أجزاء من حائط المدفعية الثقيلة الاستراتيجي على طول المرتفعات الأردنية المواجهة لإسرائيل. وهو كان مفخرة الدفاع الأردني خلال حرب الاستنزاف على الجبهة الأردنية 1968 ـ 1970. وإلى ذلك جرى تجميد خدمة العلم والإضرار بمنظومة مكافحة التجسس والعلاقات مع العدوّ التي أصبح الكثير منها، ‘ قانونيا’ .

Posted in Uncategorized.