مؤامرة على وحدة المجتمع الأردني

أبدع المجتمع الأردني الحديث، المتشكّل في غضون القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، إطارا بالغ الصلابة وبالغ المرونة للعلاقة بين المسلمين والمسيحيين المترابطين وفق التقاليد العشائرية والثقافية العربية. وفي هذا الإطار، جرى تصعيد المشتركات ( النمط الانتاجي الفلاحي البدوي والتشاركية الاجتماعية و نمط البناء الاجتماعي العشائري والتحالفات العشائرية والمناطقية ووحدة العادات والتقاليد والقيم العربية الخ ) وطيّ الاختلافات العقدية في وحدة مجتمعية تتقيّد بما يعرفه الأرادنة بـ’الحد المقبول’ المرن لإدارة مشكلات الحياة اليومية.
ومن تلك المشكلات، الزواج المختلط المحرّم لأسباب وجودية وليست تعصبية كما يظهر لغير العارفين. فبما أن الشرع يسمح للمسلم بالزواج من مسيحية لكنه لا يمنح الحق للمسيحي بالزواج من مسلمة إلا إذا أسلم، فإن إطلاق حرية الزواج المختلط سوف يقود إلى إذابة الوجود المسيحي المحلي كليا في غضون ثلاثة أجيال، ذلك أنه يحرم على الرجال المسيحيين حرية الزواج أو حرية الانتماء الديني.

ومعظم المسيحيين الأردنيين، من الناحية العقدية، علمانيون، ثقافة أو ممارسة. ولا يوجد للكنيسة تأثير عليهم، ولا يحسبون حساب الدين في نشاطاتهم الاجتماعية والسياسية، وإنما يصدرون عن أولوية الانتماء العشائري والجهوي والأردني. وعلى سبيل المثال، يقدّم المسيحي السلطي، حلفاءه العشائريين المسلمين على سواهم من أبناء دينه، ويقدّم ابن مدينته ومنطقته على سواهم، مسلمين ومسيحيين، ويقدّم ولاءه الوطني الأردني على كل ولاء ديني. والعكس صحيح تقليديا.

الترابط العضوي بين المسلمين والمسيحيين الأردنيين، حوّل المجتمع الأردني إلى كتلة وطنية صلبة عصية على الاختراق، ومكّن للدولة الأردنية من أن تتأسس على وحدة مجتمعية لا تشققات فيها. ولعل في ذلك سر قوتها.

من المعروف أن نسبة المسيحيين الأردنيين في المجتمع الأردني العشائري التقليدي، هي أكبر كثيرا مما آلت إليه بعد الهجرات. ولذلك، لا ينظر هؤلاء إلى أنفسهم كأقلية، بل إلى تكوين أساسي ورئيسي للوطنية الأردنية، ويشعرون بأنهم موكلون بالدفاع عنها وعن الكيان الوطني والثقافة الوطنية. ومن اللافت أن مساهماتهم في مجالات بناء الدولة والحركة الوطنية والأحزاب والنتاج الثقافي والفكري والأدبي في الأردن الحديث هي مساهمات نوعية تتجاوز النسبة العددية، ولكن من دون أن يكون لها اتجاه خاص، وانما بالتماهي الكامل مع الضرورات الوطنية. وعلى هذه الخلفية، لا تشكّل النخب المسيحية الأردنية، كتلة منفصلة إطلاقا، وإنما سيفا في يد المجتمع الأردني في مواجهة مخاطر تفكيك الدولة والفوضى والوطن البديل.

ولا تغيب هذه الحقائق عن إدراك الدوائر الإمبريالية الغربية ـ بل إن دراسات أكاديمية إمبريالية بحثتها بوضوح ـ ولذلك سعت تلك الدوائر وما تزال للقيام بعمليات تبشير بين المسيحيين الأردنيين لإخراجهم من مجال الانتماء الوطني إلى مجال الانتماء الديني. وبالمقابل، فإن القوى الرجعية المرتبطة بالاستعمار الأميركي والمتصالحة في العمق مع العدو الصهيوني ومشاريعه، تسعى لإطلاق الأفاعي لتفكيك وحدة المجتمع الأردني واضعافه في مواجهة مشروع الوطن البديل. وهي تستخدم، بلا ضمير، عوامل الاستفزاز الأكثر تأثيرا، والمتمثلة في اجتذاب صبايا مسيحيات ـ وأحيانا في سن الطفولة ـ لتغيير دينهن والزواج من مسلمين، بل واستخدام سلاح العشائرية الوطني على الضدّ من أهدافه، لتمزيق وحدة المجتمع الأردني، بينما تُظهر السلطات اللامبالاة إزاء هذه المؤامرة، مما يدفع أقساما من المسيحيين الأردنيين إلى الارتداد إلى الخلف والتحرك الفئوي لحماية أسرهم وأمنهم ووجودهم وكراماتهم.

في الختام، أميّز بين حالات الزواج المختلط المحدودة الناجمة عن علاقات عاطفية ناضجة وفي سياق طبيعي، وبين الظاهرة المستجدة مؤخرا القائمة على شبكة منظمة وبرنامج مشبوه، هدفه تمزيق وحدة الأردنيين أمام العواصف المقبلة. ولا أمل عندي في السلطات التي تظهر، يوما بعد يوم، المزيد من العجز عن إدارة الدولة والمجتمع، لكنني أستحثّ عشائر الأردن على استعادة قدرتها الابداعية لصياغة وحدتها في مواجهة الأخطار المحدقة، وفق معايير الحد المقبول.

العرب اليوم

Posted in Uncategorized.