أكنّ بالغ الاحترام لكل ناشط سياسي في المحافظات والعشائر، وللجانها المسماة ‘ حراكات’. وقد كتبت العديد من المقالات والدراسات حولها وحول تركيبتها ودلالات نشوئها ومعنى نشاطها، في الصحافة الأردنية والعربية، بل إنني، إلى ذلك، أقمتُ علاقات شخصية وسياسية مع الكثير منها، ونشطت مع بعضها.
وعلى هذه الخلفية بالذات، ومن موقع النقد الذاتي من خندق الحراك الشعبي نفسه، أسجّل أن تكاثر الحراكات إلى ما يزيد على 150 حراكا، هو دليل ضعف وليس دليل قوة، ويشكل ظاهرة سلبية تعكس التفتت الاجتماعي والجهوي والعشائري والسياسي في البلاد.
المعنى الجوهري لنشوء لجان محلية للحراك الشعبي هو التعبير الحيّ عن توجهات المجتمعات المحلية، وتنظيم تحركها ومطالبها في سياق سياسي هو نفسه سياق تشكّل الحركة الوطنية الأردنية الجديدة. وهي التي ينعقد عليها الأمل في تجديد الدولة الأردنية.
القضيتان الرئيسيتان اللتان شغلتا الحراك الشعبي خلال نهضته ،عام 2011، هما: (1) استئصال الفساد ومراجعة الخصخصة واسترداد الأموال العامة، (2) تنمية المحافظات بعقول وسواعد أبنائها. بينما عبّر الحراك كله عن نهضة الوطنية الأردنية، وسعيها للدفاع عن الكيان الأردني وهويته وحضوره.
وأريد أن أشهد، هنا، أن المضمون الوطني الاجتماعي والحس السياسي المسؤول هما الاتجاهان الرئيسيان اللذان أعطيا الحراك الشعبي هيبته، وجذّرا علاقته السياسية مع جماهير المحافظات.
كان هناك غضب، لكن كان هناك أمل بتسوية داخلية تستجيب للتغييرات الضرورية لتجديد الدولة الأردنية، لكن، مع انقضاء برهة 2011 من دون التوصل إلى تحقيق أي منجز في مكافحة الفساد أو استعادة أموال الدولة المنهوبة أو التنمية أو حل المسألة الوطنية. عندها اجتمع الغضب مع اليأس، وجرى التحوّل، وبالتالي، من الشعارات الاجتماعية السياسية إلى الشعارات الغاضبة، وتفككت المنظومة السياسية للحراك الشعبي على شكل حراكات متناثرة.
ساهم طرفا الثنائية القاتلة ( الدولة ـ الإخوان ) في تفتيت الحراكات وانشطارها وتأليف العديد منها كواجهات لها اسم واسم فرعي وتضم بين 3 إلى 7 أعضاء. ورغم مسؤولية الثنائية عن تفتيت الحراك، إلا أنه علينا أن نعترف، بكثير من الأسف، أن المنطويات السلبية للشخصية الأردنية، ومنها الفردية والعصبية المحلية والاستعصاء التنظيمي المركزي ورفض الهيكلية القيادية، لعبت الدور الأساسي في تفتت الحراك الشعبي، وانقلاب قسم منه على منطلقاته الاجتماعية، وبالتالي خسارة التأييد السياسي للمجتمعات المحلية، والعزلة عنها. وهو ما سمح للإخوان المسلمين بالتحرك واجتذاب قسم من الغاضبين. وقد ساعدتهم الجهات الرسمية في ذلك من خلال الاعتقالات لعدد من شباب الحراك، والتعيينات الاستنسابية وفرض قانون مطبوعات غير توافقي وإعادة الليبراليين الجدد إلى دائرة القرار وتعيين أحدهم في منصب حساس للغاية.
وقّع 55 حراكا على بيان للمشاركة في مسيرة الإخوان المسلمين المزمعة في 5 تشرين الأول المقبل. ولا يشكّل هذا مكسبا حقيقيا للإخوان المعزولين سياسيا، ولا يعني أن الحراك الشعبي يساندهم، أولا، لأن البرنامج الأساسي للحركة الشعبية الأردنية، بمضمونه الوطني الاجتماعي، مختلف جذريا عن برنامج الإخوان المرتكز إلى نقطة واحدة هي تمكينهم من صيغة انتخابية ودستورية للمشاركة في الحكم، وثانيا، لأن الحراكات الموقعة على البيان الإخواني ، في معظمها، هي لجان ضعيفة التأثير، يمثل بعضها واجهات إخوانية، ويمثّل بعضها الآخر، نزعات فردية، ويمثل بعضها الثالث حالات مطلبية خاصة ـ ولا يعني ذلك أنها غير مشروعة ـ
حسنا! الإخوان المسلمون ليسوا معنيين بالحراك الشعبي ولا بمطالبه، ولا يعتبرونه جزءا من قيادة العملية الإصلاحية ـ ولنتذكر أنهم شكلوا مجلسا أعلى للإصلاح لم يضم حتى الرئيس أحمد عبيدات، فما بالك بالزعماء المحليين في المحافظات؟ ـ ما يريده الإخوان من الحراكات مجرد التغطية السياسية لمسيرة 5 تشرين الأول المعدة لإقناع الاتحاد الأوروبي بأنهم قادرون على جمع خمسين ألفا في فعالية تُجرى تحت رايتهم.
العرب اليوم