في سورية التي بينت التطورات أنها مركز الإقليم كله، انقلب الحراك الشعبي إلى تمرد مسلح، وتحوّل، لاحقا، إلى حرب بوساطة الأدوات الإرهابية، يشنها التحالف الأمريكي الخليجي التركي ضد الدولة السورية وحلفائها الإقليميين والدوليين( إيران وروسيا والصين). وهكذا، دخلت المنطقة في أتون صراع يتخطى الأبعاد المحلية. وقد وصل هذا الصراع إلى مفرق طرق؛ فإما حرب كبرى وشاملة ( وشموليتها بالذات هي التي تصعّبها) وإما سلسلة من التسويات المرجحة. ومن الواضح أن حسم الخيارات، ليس مرتبطا بقرار الأوروبيين أو الخليجيين أو الأتراك، بل بالإدارة الأمريكية الجديدة التي ستنتخَب في خريف هذا العام وتتولى صلاحياتها في مطلع العام الجديد.
إسرائيل، وحدها، هي التي تهدد بكسر هذا الإيقاع، وقد تكسره، بشن هجوم مباغت على إيران، سيشعل المنطقة في حرب لا تعرف حدودا، وقد يدفع الإسرائيليون ثمنا باهظا فيها وفي نتائجها. وهو ما يمنع حصول اجماع إسرائيلي على شنها.
في كل الأحوال، فإن الأردن سيكون في معمعان التطورات؛ لن ينجو من الحروب ولا من التسويات. فهل يمكن مواجهة الاحتمالات الصعبة القائمة والمقبلة، بما تعيشه البلاد من فوضى سياسية وإدارية في ظل برلمان ضعيف ومشكوك في صدقيته وحكومة مؤقتة ومعزولة سياسيا؟
سبق أن طرحنا صيغة حكومة اتحاد وطني لمواجهة التطورات الآتية، ولكن الانشقاقات السياسية الحاصلة في الحياة السياسية الأردنية، بلغت من العتوّ حدا لم يعد ممكنا معه تشكيل مثل تلك الحكومة. تبقى لدينا آلية الانتخابات النيابية، لتظهير نخبة سياسية جديدة وهيئة برلمانية ذات صدقية تنبثق عنها حكومة ائتلافية، تتضمن وزارة دفاع مستقلة ووزيرا للدفاع يعيّنه الملك، بينما تتم تسمية جميع المناصب الأخرى بالمشاورات البرلمانية، وخصوصا لجهة التوافق على وزير خارجية من طراز جديد من حيث الوزن السياسي والالتزام الصارم بمرجعية مجلس الوزراء صاحب الولاية العامة.
الذين ما زالوا يرفضون التسوية الداخلية في بلدنا، فريقان؛ (1) وطنيون مغرقون في المحلية ولا يرون اللوحة الإقليمية والدولية المتشكّلة. وتجد هؤلاء في أوساط الناشطين الديموقراطيين الشباب الذين لم يكتووا بتجارب الحروب والتسويات. (2) أدوات الحلف الخليجي الأمريكي، الممثلة في ائتلاف الإخوان المسلمين والليبراليين، وهدفه الفعلي هو إضعاف البنية السياسية الأردنية، بحيث يكون الأردن موضوعا للتسويات وليس طرفا فيها.
على هذه الخلفية بالذات، ننظر اليوم للانتخابات البرلمانية، بوصفها استحقاقا وطنيا وليس، بالضرورة، ديموقراطيا. المهم، هنا، أن تكون انتخابات ذات صدقية. فهل ذلك ممكن؟
من المرجح أن تنتهي عملية التسجيل للانتخابات النيابية المقبلة ـ مع الأخذ بالاعتبار صلاحيات الهيئة المستقلة للانتخابات في الحصول على مهلة إضافية ـ عند حدود مليونيّ ناخب مقيّدين، للمرة الأولى في تاريخ البلاد، في جداول نظيفة. ويشكّل هذا الحجم من الناخبين، قاعدة لانتخابات ذات صدقية سياسية، للاعتبارات التالية:
أولا، لأن مقاطعي التسجيل ينتمون إلى ثلاث فئات أكبرها فئة اللامبالين سياسيا ووطنيا من أولئك الذين ينظرون إلى عمان كفندق وسوق، وثانيها فئة الوطنيين الفلسطينيين الرافضين للتوطين السياسي، وثالثها جمهور الإخوان ( الليبراليون ليس لديهم جمهور). وكل هذه الفئات لا تشكل أكثر من 40 بالمئة من المواطنين.
ثانيا، لأن مقاطعة الإخوان والليبراليين للتسجيل والانتخابات تصدر عن أجندة غير أردنية. وهي تمثل، في جوهرها، عملية ابتزاز سياسي للدولة لإرغامها على الخضوع لمتطلبات مشروع الوطن البديل. وهو عدوان صريح سوف ترد عليه الجماهير الأردنية في إطار مواجهة سياسية تتجاوز الانتخابات النيابية.
ثالثا، لأن التسجيل للانتخابات هو، اليوم، موقف سياسي صريح إزاء المقاطعة. وهو موقف معزز بمبادرة شخصية أيضا، طالما أن التسجيل محصور بالأفراد وعائلاتهم. ويعني ذلك أن المسجلين سيكونون، غالبا، ناخبين فعليين. وهو ما يسمح لنا بافتراض واقعي حول نسبة اقتراع بحدود 55 بالمئة من اجمالي مَن يحق لهم الاقتراع. وهي نسبة معترف بها عالميا لانتخابات ذات صدقية.
بصراحة، لا معنى، سياسيا، لمقاطعة التسجيل والانتخاب، إلا إذا قاطعت المحافظات. وهذا احتمال غير وارد. على أن أي عبث من أي نوع في العملية الانتخابية المقبلة، لن يكون فقط بمثابة تدخل فظ وتزوير مدان، بل خيانة وطنية .
العرب اليوم