كان الرئيس المصري محمد مرسي منفعلا وهو يقابل وزيرة الخارجية الأمريكية، هيلاري كلنتون؛ جلسته، عيناه، حركة يديه، ابتساماته .. تشي بابتهاجه الشديد. أيصدّق نفسه أن يجالس هيلاري شخصيا؟ البهجة مزدوجة، فهيلاري ممثلة القوة الأعظم التي نال ‘ الإخوان’، أخيرا، رضاها التامّ، ثم إنها امرأة( عجوز ولكنها حلوة بالمعيار البلدي، بيضاء وشقراء!) فكأن السماء تمطر ذهبا!ولم يتردد مرسي بتقديم وعد جازم لضيفته بالحفاظ على حقوق المرأة ( سوف يحول دون تعنيف السافرات؟) لكن ماذا عن حقوق مصر؟
مع ممثلة الولايات المتحدة الحليفة والصديقة ، أفصح مرسي عن رسالة المودة الصافية، وكرّر تعهداته بالحفاظ على كامب ديفيد. لم ينتبه مرسي إلى ما يتعرض له من إذلال مستمر؛ فهذه سابع مرة يضطر فيها إلى إعلان الالتزام بمعاهدة كان هو وحزبه يستنكرانها ويهاجمانها حتى الأمس القريب. وعلى كل حال، ليست هذه أولوية ‘ الإخوان’ اليوم، ولا هي محور العلاقة مع واشنطن التي أضحت تمثّل الحَكَم والوسيط بين رئاسة ‘ الإخوان’ وسلطة العسكر. المفارقة أن هيلاري تميل إلى الحليف الجديد على حساب الحليف القديم، وتدعو إلى تسريع الفترة الانتقالية. وهو ما يهيّج الغرائز حقا! إنما على مرسي الانتباه. فالإشارة الأمريكية الخضراء بدعم قراره إعادة البرلمان الإخواني ـ السلفي المنحل، لم تسعفه 72 ساعة في محاولته التملّص من الصفقة مع العسكر.
وقبل أن يستقبل كلنتون، كان مرسي في ضيافة الملك عبدالله بن عبدالعزيز. أعلن هناك عن وهابيته وطائفيته بصريح العبارة :’إذا كانت السعودية راعية مشروع أهل السنّة والجماعة ، فمصر هي حاميته’! يعني باختصار: أوامرك يا مولاي! فمشروعنا الإسلامي لا يخرج عن ثوب الوهابية، وأعداؤنا مشتركون:الشيعة …حزب الله وسورية والعراق وإيران!
لسنا أمام مفاجآت أبدا. فما حدث في مصر ليس ثورة وإنما انتفاضة انتكست ـ مؤقتا ـ فالثورة تعني إسقاط الطبقة الحاكمة ـ وليس الحاكم ـ وتعني تغيير النهج الاقتصادي الاجتماعي ـ وليس تجميله ـ وتعني تغيير الموقع الاستراتيجي ـ وليس تأكيده ـ وفي مصر ـ بفضل قوى الثورة المضادة من إخوان وسلفية ـ حدث التغيير تحت حكم الطبقة الكمبرادورية نفسها ( وهي محتشدة، للعلم، بالإخوان) وفي ظل النهج النيوليبرالي نفسه ( يعتبره ‘الإخوان’ النهج الوحيد الصحيح) وفي الموقع نفسه من التبعية للولايات المتحدة والخليج. وأصبح لدينا، بالتالي، مثال جديد على خواء الديمقراطية التي لا ترتبط بتغيير الطبقة الحاكمة والنهج المسيطر والموقع الاستراتيجي.
لقد كان الرئيس جمال عبد الناصر ‘مستبدا’، لكنه قاد ثورة بالمعايير التاريخية؛ أسقطت طبقة الباشوات في ضربة واحدة سريعة وجذرية، ووزعت الأراضي على الفلاحين، وأممت المصالح الأجنبية، وأنشأت القطاع العام الصناعي، ونقلت مصر من موقع التبعية للاستعمار إلى موقع التحرر الوطني والاستقلال وقيادة العالم الثالث في منظومة عدم الانحياز. ولم يحدث ذلك كله في بضعة أشهر، ولكن العديد من الضربات تمت في الأسابيع الأولى بعد 23 يوليو 1952، كما أن المبادرة إلى إلغاء المعاهدة المصرية البريطانية، لم تتأخر يوما واحدا. لم تقل ثورة 23 يوليو : نلتزم بالمعاهدة، بل أعلنت فورا عن الاتجاه إلى إلغائها، ولم تتحدث عن مشروع طائفي بقيادة السعودية، وإنما عن مشروع تحرري تقدمي للوطن العربي وإفريقيا والعالم الإسلامي.
بينما كان مرسي وكلنتون، يتناجيان، كان هناك الآلاف ( ليس بينهم إسلامي واحد) في القاهرة، يحتشدون رفضا لزيارة مندوبة الاستعمار الأمريكي، ويهتفون ‘ يا مرسي يا جبان ـ يا عميل الأمريكان’.
ولا أظن أن أحدا يحسد مرسي على هذا اللقب .
العرب اليوم