توفي عمي الحبيب فريد الثلجي ( أبو حيدر)، متغلباً في يومين على مرض كان سيستنزف حضوره القوي في الحياة التي أحبها وتحداها بكدحه ورجولته ومزاجه المرح وعشقه الدائم للرواية الشعبية والقصائد وفنون الفراسة ومعرفة الرجال ونظم الكلام الجدير بالمواقف العشائرية والجاهات ومقاعد الزلم.منذ طفولتي المبكرة، كان ابو حيدر المفضّل لديّ بين الجميع، وكنتُ المفضّل عنده، ربما بسبب شغفي بالإصغاء وربما لاحقا بسبب قدرتي على نظم الكلام المفيد مع جرأتي.
في لحظة الوفاة، وأنا اتأمل وجهه الغائب في الموت، ظللتُ انتظر ابتسامته، وأدركتُ حينها أن أبا حيدر هو أحد مصادر ثقافتي وتشكيل وجداني الأردني الشعبي.
حكايات أبو حيدر _ كما هو الأدب الشعبي _ تختلط فيها الأمكنة والأزمنة والشخصيات والخرافات، وتتشكل في لغة خاصة من الفصحى غير النحوية والعامية. وهي تستخدم عناصر ومؤثرات متنوعة بهدف إحداث التأثير القيمي وبناء الشخصية المناقبية والشغوفة بمتع الحياة معا.
ولهذه الحكايات والنصوص الواقعة بين الذكريات والتأليف، روائح، وحضور أطياف، ووَقْع محبّات وخيالات هي أهمّ من المنطق المحكم للأدب الرسمي وأبقى.
لم أعرف حيفا، لكن صورتها في وجداني مرسومة بضربات الألوان التي رسمها أبو حيدر من حكايات تلمع في ذهني أطراف منها: سيارات نقل الحبوب إليها، الشاطئ، الأوتيلات، الملاهي، المقاهي، الكباب… والعودة إلى السلط ببضائع وبرتقال مع فرح المغامرة.
وطالما زرت بغداد، لكن صورتها بقيت عندي هي الصورة التي رسمها أبو حيدر لشارع أبو النواس، العرق واللبلب والسمك المسقوف والمقامات والنهر. حتى السلط الحبيبة لا أراها واقعا، بل صورا من ذكريات ولد جريء يترك الحارات ويلتصق بمجلس باشوات السلط، ويسترق السمع لشؤون السياسة ونظم الكلام !
لم يحب أبو حيدر في حياته شيئا مثلما أحبّ نظم الكلام.. كان يرى الحياة في صور وكلمات ونَظم. وهذه هي أصالة أديب لم تتح له الفرصة، وربما كنتُ مكتشفَه الوحيد!
مبكرا، غرس بداخلي أبو حيدر، ومن غير قصد أسطورةَ الأردن، نغما مرحا وجنةً لا أعرف أين تقع ولكنني أعرف اسمها: السلط! ولأنه كان من جيل كانت المدارس الابتدائية ما تزال تتعلق بقضية وحدة سورية ونضالها القومي العنيد، طالما رددتُ وراء أبو حيدر نشيدا لم يغادرني ولم أغادره يوما:
أنتِ سورية بلادي
أنتِ عنوان الفخامة
كل من يأتيك يوما
طامعاً يلقى حِمامه
أنت سورية بلادي
في مُحيّا الأرض شامة
لن تكوني لِسوانا
ولأعدائي الندامة
وداعا أبا حيدر! وداعا يا صديقي القديم! سأظل أذكر أوّل كأس شربته من بين يديك، وأوّل الحكايات الحلوة! وأول الكلمات المنظومة والمحشومة، وسيظل صوتك الخشن يتغنى في داخلي:
على اليرموك قف واقرا السلاما
وفهّمه إذا فهم الكلاما
وقل يا نهرُ هل هاجتكَ ذكرى
شجتْ قلبي وحرّكت الغراما
… أبا حيدر … النهر يفهم.. والأرض والشجر والحجر .. والناس.. ليس كل الناس.. فأنت أدرى بالمعادن..
فليكن ذكرك مؤبدا .
العرب اليوم