عن التوق لاسترداد الكرامة

ينتابني شعورٌ عميق بالحرج بسبب رسوخ هذه الفكرة في خطاب التحليل السياسي العربي والدولي: (( مواقف الأردن )) يمكن شراؤها! فكرة بسيطة جارحة مشينة تُغني التحليل عن كدّ الذهن عن التبحّر في المسوّغات الاستراتيجية أو التكتيكية، الجيوسياسية أو الوطنية التي تقف وراء القرارات الكبرى الصادرة عن عمان. تقصّيتُ عشرات التصريحات الغربية المتعلقة بالأردن، فوجدتُها تكرّر المدائح للسياسات الأردنية المتوافقة مع المنظورات الغربية للسلام وما شابه، وتعدّ أو تحضّ على تقديم المساعدات للأردن! وهو ربط ضمني لكنه مفضوح بين السياسات والمساعدات!

في وقت سابق، التقاني دبلوماسي غربي ـ غير أميركي ـ وسألني صراحة: لماذا ترفض تجنيس وتوطين المليون مهاجر جديد من الضفة الغربية، فأسهبت في شرح حساسيات المعادلة الديموغرافية الأردنية والمآلات الخطرة لكسرها، وتساءلت لماذا يتوجب علينا مكافأة الاحتلال الإسرائيلي على بقائه ومنعه إقامة الدولة الفلسطينية وإجراءاته التي تصعّب الحياة في الضفة الغربية، باستيعاب المهجّرين وتخفيض آثار الضغط الديموغرافي على الإسرائيليين؟

كانت إجابته مهينة. لم ينطق بكلمة ولكنه فرك إبهامه بسبابته، كناية عن عدّ المصاري. غضبتُ .. وقلتُ له أنا وطني أردني وليس وزير الخارجية! اذهبْ وتحدّثْ عن المال مع المسئولين وليس معي. وزدتُ : هل تقبل تجنيس مليون مهاجر في بلدك مقابل ترليون دولار؟ قال : لا طبعا. وانتهت المقابلة.

تصريحاتنا حول علاقة دول عربية نفطية مع الأردن، تبدأ وتنتهي بالشكر والامتنان والانحناء!

وطالما جُوبه سؤالي حول الآثار الضارة بالتوسع المفرط في بعثات قوات السلام، بكلمة واحدة: المال!
لماذا ختمنا علاقات تحالفية أخوية استراتيجية مع نظام الرئيس الراحل صدام حسين بتسهيلات للغزاة؟ الإجابة الرسمية تنحصر في أرقام التعويضات المالية الموعودة!

نطيح اليوم بموقفنا المسئول إزاء مصالحنا الوطنية العليا وسلامة المملكة من تفاعلات الفوضى الأمنية في سورية، فيركز المحللون على السبب الرئيسي: الخزينة خاوية!

في أحاديثي مع مثقفين عرب أسعى خلالها إلى إظهار الأبعاد الاستراتيجية لحضور الدولة الأردنية، أواجه التعنّت حول الفكرة القائلة إن (( مواقف الأردن معروضة للبيع ))!

أُحرج، بالطبع، كأي أردني حرّ. لكن آلامي مضاعفة. فعلاقتي مع بلدي تندرج في مقام العشق، حتى أنني أمرض ـ فعليا ـ في اليوم الثالث لغيابي عن عمان، كذلك، فإن المجال السوسيو اجتماعي التاريخي هو مجال نشاطي البحثي الرئيسي ، وأنا أؤمن بالأردن وطنا وبالدولة الأردنية ودورها الممكن على المستوى الإقليمي، وفوق ذلك، فإن دراساتي الاقتصادية، أظهرت لي ما كان ظاهرا ببساطة لأعضاء المؤتمر الوطني الأردني الأول لعام 1928 من أن موارد الأردن كافية، إذا ما أُحسنت إدارتها، لسدّ احتياجاته وتطويره، لكنها، بالطبع، ليست كافية للإنفاق الخيالي على امتيازات النخب المسيطرة وتكوين الثروات المليارية ونمط الحياة غير الأردني.

في العقد الأخير، جرت عملية نهب منظمة لثروات الأردن وموجوداته الوطنية لصالح مستثمرين أجانب وشركائهم المحليين في ‘البزنس’ والسياسة والإدارة، كما جرى هدر مئات الملايين جراء الفساد الجنائي وسوء إدارة الموارد والمشاريع الكرتونية والهدر، وصعدت المديونية العامة وعجز الموازنة، تاليا، إلى الحد الذي يهدّد البلاد بالإفلاس. ومن البديهي أن المواطن الأردني ليس هو المسئول عن هذه الكارثة، بل هي مسئولية الذين صنعوها من أصحاب القرار ممن استأثروا بمواقع إدارة الدولة والاقتصاد والمالية العامة خلال العقد الماضي، ولم ينتخبهم شعبنا ولم يمنحهم تفويضا، بل شكّك فيهم وهاجمهم على طول الخط.

عائدات الفوسفات المنهوبة وحدها تغنينا عن مساعدات الخليج، وأرباح شركة توليد الكهرباء، العلنية والضمنية، قادرة على تخفيض كلفة الكهرباء، والعوائد الفائتة من الخصخصة الجذرية لقطاع الاتصالات، كانت تغنينا عن المساعدات السعودية، والأموال المهدرة في ملف أمنية وحده كان كافيا ليغطي المساعدات الأميركية لأكثر من سنة، وبدل الاستغلال الفاحش المجاني لحوض الديسي من قبل برجوازيين متنفذين، كان سيسعفنا في تأمين قسم من الغذاء الرخيص لمجتمعنا. ولا يتسع المجال هنا لتعداد المزيد، لكن الخلاصة أن ما نُهب ويُنهَب من ثروات بلدنا وامكاناته يفوق حجم جميع المساعدات والمنح، أضعافا.

الشعب الأردني الآن يصرّ على محاكمة هذه المرحلة باعتبارها المقدّمة التي لا غنى عنها لأي إصلاح سياسي.

وفي مسيرات يوم الجمعة الماضي ـ التي غاب عنها ‘ الإخوان’، عاد التركيز على هذا المطلب ليحتل فضاء الهتافات الجماعية الغاضبة، وارتفعت، مجددا صور رئيس الوزراء الشهيد وصفي التل وتعالت الهتافات باسمه، تعبيرا عن الحنين ليس فقط إلى النزاهة والوطنية والعدالة الاجتماعية، وانما، بالأساس، تعبيرا عن التوق إلى استرداد الكرامة.

العرب اليوم

Posted in Uncategorized.