في مقالات ثلاث شجاعة (العرب اليوم 4 و5 و6 تموز 2012) خطا القيادي الإسلامي، رحيّل غرايبه، خطوة نوعية نحو الانفصال السياسي عن الإخوان المسلمين. ولا أتحدث، هنا، عن استقالة أو خلاف أو انتقال أيديولوجي أو ما شابه، بل أتحدث عن جرأته في توجيه النقد العميق للممارسة السياسية ‘الإخوانية’ غير المبدئية في وسائلها، والغامضة في أهدافها، والاستبدادية في ممارساتها.
من المفروض، عند غرايبه، أن ‘ الإخوان’ من الدعاة المتشددين لإصلاح النظام السياسي الأردني. ومن عيون ذلك الإصلاح، استعادة الولاية العامة لمجلس الوزراء وهيمنته على الدفاع والأمن والخارجية والسياسات الاقتصادية. ولذلك، فهو يستهجن كيف يلتقي قادة ‘الإخوان’ ـ الذين يقاطعون الحكومة ورئيسها ـ مدير المخابرات العامة في لقاء غامض غير معروف الأجندة والنتائج. وهو يقرر أن هذا السلوك غير مبدئي ومثير لريبة حلفاء ‘ الإخوان’ في الحراك الشعبي.
قادة ‘ الإخوان’ أناس عمليون للغاية. وكانوا قد اعلنوا صراحة أنهم يرفضون الحوار مع رؤساء الهيئات الدستورية ( الحكومة والبرلمان والأعيان) لأنه حوار مع مسؤولين وهيئات بلا صلاحيات، وأنهم، بالمقابل، مستعدون وراغبون بالحوار مع أهل القرار، أي الملك والمخابرات. وهذا التقييم صحيح واقعيا. و’ الإخوان’ قوم واقعيون، أما الشعارات فهي للتحشيد. وبالنسبة للغموض، فإنه من البديهي أن تكون مجريات الحوار مع مدير المخابرات، سرية، سواء أفي الأردن أم في فرنسا.
ينبغي القول، هنا، أن ذلك الحوار، بحد ذاته، ليس هو القضية، بل القضية تكمن في تناقضه مع الشعارات ‘ الإخوانية’، ليس فقط لجهة مبدأ الولاية العامة لمجلس الوزراء، بل، أيضا ـ وهذا ما أغفله غرايبة ـ لجهة أن 50 بالمئة من هتافات ‘ الإخوان’ في التجمعات وتصريحاتهم النارية، مخصصة لهجاء المخابرات ومدراء المخابرات بالاسم. ولا يمكن تفسير ذلك إلا بوجود ملفات خاصة بين الطرفين لا يعرفها المتظاهرون ولا تعني الحراك الشعبي ولا الإصلاح السياسي ولا الشأن الأردني كله، بل تتصل، تحديدا، بالعلاقة مع حركة حماس وملفاتها الأمنية. وهذه الملفات ليست في أدراج رئيس الحكومة بالطبع، وإنما في أدراج مدير المخابرات.
وضع الغرايبه يده على الجرح، حين تحدّث عن صراع الأولويات بين الإسلاميين الوطنيين الإصلاحيين المهتمين بالتغيير الديموقراطي في الأردن، وبين القيادات الإخوانية الحمساوية التي تمنح الأولوية لمشروع حماس الفلسطيني. والخلاف هنا ليس على فلسطين وإنما على السؤال الجوهري: هل الأردن وطن أم ساحة؟.
دعنا نكشف المستور/ المعروف: حماس هي التي تسيطر، تنظيميا وسياسيا وماليا واعلاميا، على الجماعة الأردنية. وهي تستخدم دعاة الإصلاح من القادة والشباب الإسلاميين الجادين للضغط على النظام في سياق ترتيب ملفات حماس الأمنية، لا أكثر ولا أقل! وحالما يتم ترتيب هذه الملفات، فسوف يبتلع أصحاب القرار في ‘الجماعة’، خطابها المعارض كله، وينضوون في العملية السياسية الرسمية، ويسبّحون، وراء خالد مشعل، بفضائل الديموقراطية الأردنية.
بالنسبة لأصحاب القرار في ‘الجماعة’، ليس الأردن وطنا قائما بذاته ولذاته، بحيث تكون الأولوية لشؤونه الداخلية في أية ممارسة سياسية، بل الأردن، عندهم، ساحة لحماس ـ الخارج التي لا أمل لها في منافسة فتح في الضفة الغربية من دون المنصة الأردنية، ولا أمل لها بمقعد في الإقليم خارج الأردن.
فوجئ الغرايبه باستبداديّة جماعته التي ‘ضاق صدرها بمقال’. لكنني واحد من كثيرين لم تفاجئهم هذه الاستبدادية، فهي مجبولة في صلب السياسة والتنظيم ‘ الإخوانيين’. وهي استبدادية أسوأ من تلك الخاصة بالأنظمة التقليدية، لأنها مدعمة بخطاب ديني وقواعد شعبية. ما فاجأني هو توجه الأطراف المسيطرة في النظام إلى دعم حمساوييّ ‘ الإخوان’ ضد الغرايبه والتيار الوطني الإصلاحي. وكنتُ أرجو أن تظلّ، أقله، على الحياد. لكن يبدو لي أن الصفقة بين النظام وحماس ماشية. وهو ما يقدره الغرايبه أكثر مني. ولذلك، تراني معجبا حقا بشجاعته السياسية .
العرب اليوم