بني صخر وتراث التحوّلات نحو المعارضة

ناهض حتر ـ أواصل، هذا الثلاثاء أيضاً، حفريّاتي في المجال السوسيو ـ ثقافي لشرق الأردن، في ما يلي مقاربة لأهم تجمّع «بدوي» في البلاد، كانت له أدوار بارزة في تاريخها. في نهايات العهد العثماني، حال الصخور (بني صخر) دون توسّع إمارة البلقاء الفلاحية لتفرض هيمنتها على كامل حدود شرق الأردن، مما سمح، لدى وقوع البلد تحت الانتداب البريطاني (1920)، بنشوء الإمارة الهاشمية التي اعتمدت على عصبية بني صخر، لتعضيدها ضد المعارضة البلقاوية المسلحة (1923)، وتالياً ضد المعارضة الوطنية الناشئة في العشرينيات والثلاثينيات، ثم ضد المحاولات الانقلابية للضباط الأحرار من أبناء الفلاحين في الخمسينيات. في المقابل، أدى الصخور دوراً وطنياً أساسياً في صد غزوات الوهابيين في العشرينيات، راسمين حدود شرق الأردن مع السعودية، بالسلاح.
موقع ديرة بني صخر، كبرى القبائل الأردنية، بالقرب من عمان العاصمة، منحهم قوة مضاعفة في التأثير السياسي والمكاسب الاقتصادية. وبالنسبة إلى المراقب المتعمق في الشؤون الأردنية، فإن انتقال قسم من شباب بني صخر، اعتباراً من 2011، إلى صفوف المعارضة، يعدّ حدثاً نوعياً في تاريخ هذه القبيلة المعدودة جوهرة التاج في عصبية النظام الأردني.

خلال بضعة عقود، عرفت عشائر بني صخر أربعة تحولات اقتصادية واجتماعية عميقة. فمن بدو يعتمدون على تربية الإبل في مراع تمتد من الطبيق على الحدود السعودية، جنوباً، إلى المزيريب جنوبي سوريا شمالاً، إلى أنصاف بدو يعتمدون على تربية الأغنام في ديرتهم وحولها، إلى مزارعين يعتمدون على المرابعين ولاحقاً على العمالة والآليات الحديثة، إلى الاندماج في الحياة المدنية بالاعتماد على الوظيفة والجندية، وأخيراً على القطاع العقاري، حين تحولت أراضيهم إلى امتداد للعاصمة المتضخمة التي لا تني تستهلك المزيد من الأراضي الزراعية والمراعي. في عام 1876 شاهد الرحالة «مرل»، ثلاثة قطعان من الإبل تعود إلى بني صخر، ترعى في سهل مادبا (جنوبي عمان)، وقدّر عديد كل منها بالآلاف.

في ذلك الوقت، لم يكن الصخور يمارسون تربية الأغنام إلا كنشاط ثانوي، أما الزراعة، بكل أشكالها، فقد كانت، بالنسبة إليهم، خياراً غير وارد، رغم أن ديرتهم، جنوبي وجنوبي غربي عمان وحوالي مادبا، تضم عشرات آلاف الدونمات الصالحة لتربية الأغنام والزراعة البعلية. وهو ما كان عماد اقتصاد جيرانهم من العشائر نصف البدوية المستقرة في البلقاء.

نستطيع القول إن البداوة كانت، هنا، استراتيجية سياسية مصممة أنتجت خياراً اقتصادياً، لا العكس ، فالقدرة على الترحّل في قلب الصحراء، وتوفير طاقة العمل في تنظيم قتالي مجهّز ومستعدّ، منحا الصخور، ميزة الاستقلالية إزاء أية سيطرة حكومية. وهو وضع عالجته الدولة العثمانية من خلال دفع صرّة الحج للصخور، الذين كانوا يسيطرون على منطقة استراتيجية على طريق الحاج الشامي، ويفرضون نفوذهم على مناطق فلاحية غنية. وقد اتبع العثمانيون مع بني صخر، سياسات عنيفة أحياناً واسترضائية غالباً، لكنها فعالة. فإضافةً إلى صرّة تأمين طريق الحج، كلفوا الصخور بمهمات نقل الذخائر والمؤن من المزيريب حتى القطرانة لقاء بدل نقدي. وهكذا، كان يتوافر للصخور من المال والنفوذ ما يمكّنهم من الحصول على السلع الغذائية نصف البدوية والفلاحية من الحبوب ومشتقات ألبان الأغنام والزيت ومستلزمات غذائية أخرى، لكن حليب النياق، ظل، بالطبع، مادة غذائية رئيسية لمعظمهم، كما أن لحمها، كما لحم الطرائد، ظلا مصدر البروتين لدى غالبيتهم.

ولعل التنظيم الإداري المرن للأفخاذ العشائرية المنسرحة والقادرة، عند اللزوم، على التجمع في قوة واحدة، منح بني صخر، القدرة على التفاوض مع الدولة العثمانية والحصول منها على مكتسبات مالية، والقدرة على فرض النفوذ والحصول على عوائده العينية والنقدية من العشائر نصف البدوية المستقرة والفلاحين والقوافل التجارية. لكن البداوة، مثلما هي خيار سياسي، فإن استمرارها منوط بالظروف السياسية المواتية.

لم تترك إجراءات العثمانيين الإدارية المتنامية الفعالية في شرق الأردن منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، مجالاً لاستمرار بداوة الصخور. ومن اللافت أن الصدر الأعظم كمال باشا، قد أعطى الإجراءات الخاصة بتوطين البدو، أهمية خاصة في إطار خطته لإنشاء ولاية عمان، عام 1878، ومنها «تشجيع العربان على ترك حياة البداوة، وحثهم على التوطن والاستقرار، وإرغام من يرفض ذلك منهم، وتثبيط هممهم عن تربية الإبل، فإن عدد إبلهم يفوق الحد ويزيد عن الحاجة. والأفضل أن يقتنوا الخيل والضأن والبقر» وكذلك «استخدام بعض المشايخ المقيمين في جهاز الدولة».

وفي عام 1879، أنشأ العثمانيون وحدة إدارية في قلب ديرة بني صخر، مقرها الجيزة، وهي إحدى المحطات المهمة على طريق الحاج. وجرى تعيين الشيخ سطام الفايز، مديراً للناحية، ومن مهماته «مراقبة حركات القبائل، وشق الطرق، وتطوير الزراعة، وتكثير حيوانات الزراعة». لكن الدولة العثمانية، ظلت تدفع لبني صخر، صرة الحجّ وأجور نقل المؤن والذخائر بواسطة الجمال حتى ثورة الكرك 1910.

في الأثناء، شجع العثمانيون إقامة قرى زراعية مستقرة محاذية لمناطق البدو في مادبا وعمان واليادودة. وقد لفتت نجاحاتها الزراعية، أولاً، اهتمام العشائر نصف البدوية، التي طورت زراعاتها بسرعة، ثم لفت النهوض الزراعي ونتائجه الملموسة، أنظار شيوخ الصخور، الذين بدأوا تجارب زراعية بالاعتماد على مرابعية من فلاحي البلقاء وفلسطين.

وعند اكتمال الخط الحديدي الحجازي، في 1908، ضاق هامش المناورة البدوية أمام بني صخر، وانحسرت رقعة المراعي لصالح الأراضي المستزرعة، وهو ما حدا بهم إلى الانتقال من تربية الإبل إلى تربية الأغنام، والاندماج في اقتصاد العشائر نصف البدوية في البلقاء. وقد شغّل شيوخ الصخور، الرعاة من خارج المنطقة وداخلها، للاهتمام بتربية الأغنام، بينما مارس صغار ملاكي الحلال، الرعي، بأنفسهم. لكن، حتى صغار حائزي الأراضي الزراعية، قلدوا شيوخهم في زراعتها عن طريق المرابعة أو المثالثة، بالاتفاق مع فلاحي المنطقة أو بالاعتماد على فلاحين من فلسطين. وتعكس هذه الظاهرة، عمق التجذّر الثقافي للبداوة التي تنفر من الأعمال الزراعية، في نفوسهم.

لدى نشوء الإمارة، عام 1921، وتحديد الحدود السياسية وبسط سلطة الدولة، تسارع اتجاه الصخور نحو الاستقرار نصف البدوي، وتراجعت تربية الإبل إلى حدود الاحتياجات الضرورية للنقل والأعمال الزراعية. وفي نهاية الثلاثينيات، حدثت موجة أخرى واسعة من استزراع الأراضي امتدت حتى الموقر شرقاً. وحينها كان الشيخ حديثه الخريشة يمتلك شلايا بالآلاف من الأغنام و100 بعير فقط.

في الخمسينيات والستينيات، حدثت موجة زراعية ثالثة وأخيرة، ذلك أن الملكيات الشاسعة من الأراضي، أغرت شيوخ الصخور باستخدام الآليات الزراعية الحديثة والعمالة المأجورة، مما أنتج فائضاً في الحبوب، لم تستطع الأسواق المحلية، استيعابه. ومنذ مطلع السبعينيات تضافرت سياسات استيراد الحبوب الرخيصة والتسليع العقاري للأراضي الزراعية المحاذية لعمان، على تراجع الزراعة ومواتها، والولوج إلى مرحلة جديدة من حياة بني صخر، اعتمدت كلياً على الوظيفة والجندية والنشاط العقاري.

ومنذ أواسط الثمانينيات، بدأت الأحوال المعيشية تسوء بالنسبة إلى جمهور الصخور، بينما أخذت مساحات ملكياتهم بالتقلّص. وبالنظر إلى تراجع دور الدولة الاقتصادي الاجتماعي تحت ضغوط موجة الخصخصة في العقد الأول من القرن الحالي، عرف الصخور نشوء الفئات المفقرة. وبالنسبة إلى شيوخهم والفئات المتوسطة منهم، فإن ما تعرضوا له، موضوعياً، من تهميش سياسي، بدأ يدفع العناصر المسيسة منهم نحو المعارضة.

ـ الأخبار ـ
………………………………….
الصورة لبوابة قصر المشتى يحرسه مسلحون
من بني صخر شهر آذار 1900 م البوم GERTRUDE BELL

Posted in Uncategorized.