ما يهمنا, في ذكرى انتفاضة نيسان 89 ، هو استذكار الدينامية الذاتية للحركة الوطنية الأردنية, حركة اكتشاف الذات وقوة المجتمع والطموح التقدمي والديمقراطي . وهي كلها معان تجسدت في النبضة التاريخية التي هزت مجتمعنا من الأعماق, ولا تزال مفتوحة على الاحتمالات .
أشير, أولا, إلى الخلفية السياسية الثقافية للانتفاضة . وهي خلفية صنعها اليسار في نشاطه الدينامي والبطولي, طوال فترة الأحكام العرفية, خصوصا في عقدي السبعينيات والثمانينيات. وهو نشاط نشر الوعي الاجتماعي والديمقراطي على نطاق واسع, وانجب حشدا من الكادرات النضالية من صفوف الشعب, من مثقفين مبعدين من النادي السياسي الرسمي الذي ظل محتكرا على نخبة ضيقة للغاية. ( تم اجتذاب قسم كبير من هؤلاء لاحقا إلى النادي الرسمي عبر التحولات ‘الديمقراطية ‘ مما افقد الحركة الشعبية معظم كادراتها )
انتفاضة نيسان 89 هي, بالنسبة لي, دليل على أن العمل الثقافي السياسي الشعبي المتواصل البطيء والتعبئة الفكرية لا يذهبان هدرا, بل يترجمهما المجتمع في لحظة تاريخية, في تحوّل نوعي.
ثانيا, كانت انتفاضة نيسان لحظة تنوير أردنية, لحظة اكتشاف الذات الوطنية . ولا يمكن عزلها, أبدا, عن قرار فك الإرتباط مع الضفة الغربية العام ,88 ما وضع المجتمع الأردني أمام استحقاقات التغيير الداخلي. وقد سارت الإنتفاضة في طريق متعرج من الجنوب إلى الشمال, عبر المحافظات. وهو ما تكرر في هبات 96 و 98 والحراك الشعبي الحالي. وهو اتجاه لتأكيد ولادة الحركة الوطنية الأردنية الجديدة, بكل مضامينها السياسية والاجتماعية والثقافية .
ثالثا, لم تكن انتفاضة 89 مجرد تحرك ديموقراطي . بل كانت, بالأساس, تحركا سياسيا له مضامين وطنية اجتماعية . وقد عكست وطورت وعيا ديمقراطيا شعبيا وليس ليبراليا أبدا. ولكنها كانت انتفاضة مجهضة.
رابعا, أسباب اجهاض انتفاضة 89 وما تلاها من تحركات اجتماعية وتحررية, عديدة . منها مرونة النظام السياسي الذي بادر الى توسيع نطاق نخبه ودمج العديد من القيادات الشعبية في صفوفه . ومنها ازدهار شرائح بورجوازية جديدة من ابناء المحافظات, والعودة الكثيفة للمغتربين بثرواتهم ونزعاتهم المبرجزة, أما السبب الرئيسي فيكمن في مساعي القوى المسيطرة إلى احتكار الحياة السياسية في قطبين, رسمي و’إخواني’.
وخلال العشرين عاما الماضية تكرر, بما يشبه القانون, اجهاض التحركات الاجتماعية والوعي الديمقراطي الثوري من خلال بث أوهام السلام كما حصل في 93 و94 أو من خلال دعوات وتحركات ديموغوجية يقودها, بالأساس, الإخوان المسلمون الذين لم يشتركوا في أي انتفاضة اجتماعية, وليس لهم, أصلا, وعي اجتماعي تقدمي.
خامسا, نبضة 89 لا تزال هي الدليل الى الطريق الوحيد الممكن لنهضة وتقدم الأردن, طريق اكتشاف الذات الوطنية والوعي الاجتماعي والديمقراطي الشعبي والنزوع الى التقدم . وما زال الأردن ينتظر قوة سياسية تترجم معاني 17 نيسان 89 الى حركة سياسية لا بد ان تتصف بثلاث صفات هي : البعد الوطني و البعد الاجتماعي والبعد الثقافي التقدمي.
العرب اليوم