أفضل عرض لنظرية وصفي التل في المقاومة الناجعة, جسّدها, بعد استشهاده, بعقدين, حزب الله في لبنان. وهو الذي بنى جيشا منظما كالجيوش الحديثة بهيكليتها وصرامتها التنظيمية وقدراتها الاستخبارية والتزامها بأوامر القيادة السياسية الخ , ولكنه, أي هذا الجيش, يستخدم وسائل الحرب اللامتكافئة مدعوما بمحيط شعبي منظم ومجيّش يشكل حاضنة اجتماعية للنضال المسلح. وهذه, بالضبط, كانت خطة وصفي التل, بعد 1967 ، اقترح نسقا من الدفاع العسكري والجيش الشعبي المنضبط في خط دفاعي داخل الضفة الشرقية, بينما تقوم فصائل فدائيين مسلحة بالعمل داخل الأراضي المحتلة. وهذه الإستراتيجية هدفها إنهاك المحتلين بحرب عصابات لا يستطيعون تدمير قواعدها الخلفية أو احتلالها , بما يفضي في النهاية إلى انسحابهم من طرف واحد, من دون اعتراف أو صلح أو مفاوضات.
وكان الجيش العربي الذي أعاد تنظيم نفسه, من دون أي سلاح جديد, قد قدّم مثلا بطوليا في معركة الكرامة 1968 للإمكانات الخصبة لهذه الاستراتيجية. ولم تلتفت كل التحليلات التي ناقشت هذه المعركة إلى هذا البعد , إذ كانت هزيمة الغزاة حتمية فيها, بسبب إضطرارها إلى خوضها في الشريط الغوري مع استحالة التقدم الآلي صوب المرتفعات, مما جعل العدوان الإسرائيلي بلا معنى إستراتيجي, وقد انهزم أمام قوات منظمة استخدمت وسائل المقاومة, وخصوصا اصطياد الدبابات بالقاذفات المحمولة على الكتف, مدعومة بغطاء من المدفعية المحصنة في المرتفعات.
إن الدرس التي استقاه العدو الصهيوني من معركة الكرامة 1968 هو ضرورة التوصل إلى صيغة سلام واقعي مع الأردن بما يبدّد تفوّق طبوغرافية الأرض و يضعف إرادة المقاومة, ويهدم التوازن الاستراتيجي مع الجيش الإسرائيلي.
وقد وضعت الولايات المتحدة, بعد رحيل التل, ثقلها وراء مشاريع ‘ إنمائية’ مصممة لتجريد الأردن من تفوّق طبوغرافية الأرض, وذلك في مجالات كان الشهيد وصفي يرفضها لأسباب استراتيجية, ونشير, خصوصا, إلى الاستثمارات المكثفة في الأغوار وشق الأوتسترادات العريضة التي تربط المناطق الغورية بالمرتفعات الجبلية , وتسمح, بالتالي, للآليات الإسرائيلية, باقتحام الهضاب الأردنية, وتضعف فرص مقاومتها بالحرب الشعبية.
استثمارات الأغوار والبحر الميت ووادي عربة والعقبة و’أوتوسترادات السلام’ نُفذت في خطط متلاحقة في السبعينيات والثمانينيات, أي قبل معاهدة وادي عربة المشؤومة للعام 1994 . وبهذا المعنى, لم تكن المعاهدة بداية وإنما تتويجا لعملية السلام على الأرض التي لا تعدو كونها تجريد الأردن, باستثمارات غير تنموية ومصممة لأهداف سياسية, على مدار عقدين.
إن الزراعة المكثفة في الأغوار لا قيمة تنموية لها, لأنها تستهلك معظم المياه الأردنية من مصادرها الجبلية, وتصبها في منطقة حارة عالية التبخر, ولإنتاج خضراوات ومنتجات تصديرية بأيد عاملة وافدة ولمصلحة الفئات الكمبرادورية والتجار. ومن هذه الناحية, فإن البنى التحتية, المائية وسواها, في الأغوار وأوتسترادات السلام الخ وكلها لها بدائل أكثر نجاعة من وجهة نظر الإقتصاد الوطني والضرورة الدفاعية معا. وكان الأفضل, الإبقاء على الغور كمنطقة زراعية رعوية تقليدية, تقوم على العدالة الاجتماعية ودعم السكان المحليين بالخدمات اللازمة والملاجئ المحصنة ووسائل الحفاظ على أمنهم واستقرارهم تحت أقسى الظروف. وهو ما شاهدناه لاحقا في جنوب لبنان.
العرب اليوم