الأردن دولة ممانعة .. كيف?

وصفتُ الدولة الأردنية بأنها ‘ دولة ممانعة’. ويثير هذا الوصف تساؤلات بالنظر إلى أن السياسات الرسمية تقف, تقليديا, في المعسكر السياسي المضادّ. وبالنسبة لي, فهذه هي مأساة الدولة الأردنية التي لا تعي واقعها الموضوعي, وتسلك نخبها المسيطرة مسلكا يقود الدولة إلى الانتحار.
ولكي نفهم, سوف نعود إلى الفلسفة التي عالجت هذا التناقض بين ‘ الشيء في ذاته’ وبين ‘ الشيء لذاته’. وقد استخدمت الماركسية هذا المفهوم حول الطبقات العاملة, وميزت بين ‘ الطبقة في ذاتها’ ¯ أي في سماتها الاجتماعية السياسية ومصالحها المحددة موضوعيا ¯ وبين ‘ الطبقة ل..ذاتها’ أي الطبقة التي تعي واقعها ومصالحها ..ودورها التاريخي, وتجسد ذلك في سياسات مطابقة لتلك المصالح وذلك الدور.

الدولة الأردنية ‘في ذاتها’ هي دولة ممانعة, فقط لمجرّد وجودها الذي يمثّل, موضوعيا, عقبة ممانعة للشرق الأوسط الجديد الأميركي. ففي هذا المشروع لا بد من حل القضية الفلسطينية. وهذا الحل, ممكن فقط على حساب إسرائيل أو على حساب الأردن. وبالنظر إلى موازين القوى والتحالفات الإقليمية الراهنة والقادمة, فإن الإمكانية الثانية تظل حاضرة بقوة. ولذلك, يغدو شطب الدولة الأردنية بغض النظر عن نظامها وسياساتها, بندا مطروحا على مشروع الشرق الأوسط الجديد.

ومن وجهة نظر هذا المشروع وتلك القوى, فإن الأردن موجود على أجندة الشطب, وليس فقط أجندة التغيير. فمشكلة الشرق الأوسط الجديد, ليست مع النظام الأردني, بل مع الدولة الأردنية.. ‘في ذاتها.’

كان للدولة الأردنية, لزمن طويل, جناحان يحميانها موضوعيا ¯ حتى في عز الخلافات ¯ هما الدولتان القوميتان في العراق وسورية. الأولى سقطت في الحرب الأميركية العام ,2003 وساهمت السياسة الأردنية, في عملية انتحار ذاتي, في تلك الحرب. والثانية تتعرّض اليوم لهجمة أوسع وأكثر شراسة من قبل واشنطن وحلفائها في الخليج وتركيا وشبكة الإخوان. فهل تطلق الدولة الأردنية, مع هؤلاء, النار على قلبها?

في سورية أيضا, لا يطلب الحلف المعادي, رأس النظام فقط, بل رأس الدولة السورية ذاتها. وإذا ما تم ذلك, سيجيء الدور على الدولة الأردنية. وستتبدّل, عندها, الإبتسامات الخبيثة المصروفة اليوم لعمان إلى وجوه لئيمة وقرارات لئيمة وحصار وعدوان.

لا يمكن تبسيط المشكلة الداخلية في سورية إلى مشكلة ‘الحرية’ …و’ بس’. ولا يمكن إصدار الأحكام على سورية من زاوية واحدة هي إدانة القمع فقط. المشكلة الداخلية السورية لوحة مركّبة ومعقّدة, ولا حل سريعا وأحاديا لها إلا بتدمير اللوحة كلها. بالمقابل, فإن الحل الآمن هو الحل التطوّري الشمولي الذي يأخذ بالإعتبار تعزيز الدولة لا تفكيكها, وتلبية متطلبات التقدم الاقتصادي والاجتماعي والعدالة, وعدم المساس بالمعادلة الطائفية والمذهبية والاتنية الحساسة للغاية. وهو حل يتطلب حوارا ووقتا وتمهيد الحياة السياسية لديناميات جديدة مفتوحة نحو المستقبل.

الرؤوس الحامية التي ترفض هذا المسار الحواري التوافقي البعيد المدى تعبر عن شراكة في المؤامرة الخارجية أو عن عقول مغسولة بالبث الفضائي المسموم أو بالتعصب الطائفي والمذهبي.

مصلحة الدولة الأردنية لا تكمن فقط في دعم الحوار الداخلي في سورية, وإنما أيضا في الدفاع عن الدولة السورية ضد الإجراءات والسياسات المعادية. فالدولتان, الأردنية والسورية, تنتميان, رغم الخلافات الجانبية, إلى الدائرة الجيوسياسية نفسها. والأردن, ‘ في ذاته ‘, لا ينتمي ولا يمكنه أن ينتمي إلى الدائرة الخليجية بل هو جزء تكويني من الدائرة الشامية التي ستنهار إذا انهار مركزها السوري وامتداده اللبناني, وسيكون الأردن, عندئذ, وحيدا ¯ بامتداده الفلسطيني ¯ في صحراء جرداء تتحكم في مصيره القوى المعادية لوجوده… ‘في ذاته’.

الهلال الخصيب تركيب جيوسياسي واحد متعاضد وتلظمه مصالح استراتيجية مشتركة وتسمه ثقافة التعدد الديني والمذهبي والاتني والتحضر والتسامح. وقد ضُرب الجناح العراقي منه ولا نعرف متى يعود. والهجمة على الجناح السوري ليست سياسية وعسكرية فحسب, بل ثقافية أيضا تهدف الى ضرب الإسلام الحضاري والتعددية والتسامح وفرض الرؤى المذهبية الصحراوية, ما يعني شطب الدائرة الشامية في أعمق خصائصها.

الدولة الأردنية تواجه اليوم مفصلا تاريخيا, فإما أن تعي واقعها الجيوسياسي وتركيبتها الاجتماعية السياسية الثقافية وهويتها ومصالحها الاستراتيجية, وإما أنها تغامر بوجودها… الذي يراه التحالف الأسود,اليوم, كما هو فعلا, كوجود ممانعة مطلوب شطبه في الشرق الاوسط الجديد.

(العرب اليوم)

Posted in Uncategorized.